في الذكرى الثانية لاستشهاده، يتجدّد في أذهان الجميع صدى الجوع في وجه القيد الذي لم يسكت.. ذلك الصوت القادم من عمق الزنازين، من الجوع والإرادة، من الشيخ خضر عدنان، الذي تحوّل من أسير في زنزانة معتمة إلى رمز فلسطيني وعربي للمقاومة والإصرار.
لم يكن خضر عدنان مجرد رقم ضمن قوائم المعتقلين، بل كان التجسيد الحيّ للإرادة في وجه الاحتلال.. الاسم الذي لا يُذكر إلا مقرونًا بالإضراب عن الطعام، بالكرامة، بالصمود، وبالانتصار رغم كل محاولات الإخضاع.
حياة من الاعتقال والمقاومة
وُلد الشيخ خضر عدنان عام 1978 في بلدة عرابة قرب جنين، وانخرط منذ شبابه المبكر في العمل الوطني والسياسي، وبرز اسمه ضمن كوادر حركة الجهاد الإسلامي.. اعتُقل على يد الاحتلال 13 مرة، وأمضى ما يقارب 8 سنوات في السجون، أغلبها تحت الاعتقال الإداري دون تهمة واضحة، وهو ما دفعه إلى ابتكار وسيلة مقاومة خاصة به: الإضراب الفردي عن الطعام.
رائد الإضراب الفردي.. من صوت الأسير إلى أيقونة شعب
كانت أولى معاركه مع الإضراب عام 2011، حيث خاض إضرابًا استمر 66 يومًا رفضًا لاعتقاله الإداري، وانتزع حينها حريته بكرامته.. وتوالت بعدها معاركه النضالية:
في 2015: أضرب 56 يومًا.
في 2018: خاض إضرابًا لـ58 يومًا.
في 2021: أضرب 25 يومًا.
في 2023: أضرب 86 يومًا، انتهت باستشهاده في فجر 2 مايو داخل زنزانته، بعد أن رفض الاحتلال إطلاق سراحه أو تقديم الرعاية الطبية له.
في كل إضراب، لم يكن خضر يتحدّى سجانيه فقط، بل كان ينطق باسم آلاف الأسرى الصامتين خلف الجدران، ويوصل صوتهم إلى العالم من خلال جسده الهزيل وأمعائه الخاوية.
وصية من عمق الوجع
قبل استشهاده، كتب خضر وصيته الأخيرة، وهو على فراش الجوع والاحتضار:
"أبعث لكم بكلماتي هذه وقد ذاب شحمي ولحمي ونخر عظمي وضعفت قواي… أوصيكم بقول الحق في كل زمان ومكان، وخير بيوت فلسطين هي بيوت الشهداء والأسرى والجرحى والصالحين."
عائلته.. حكاية صبر وفخر
زوجته، رندة موسى، كانت صوته الخارجي، والمتحدثة باسمه في كل محنة، قالت بعد استشهاده:
"سنحاسب كل مقصر، خضر ترك وحيدًا، ولن نستقبل العزاء به بل التهاني لأنه نال ما كان يطلبه: الشهادة."
أما نجله عبد الرحمن، فقد لخّص فخر العائلة قائلًا:
"فرحت أن أبي استراح من تعبه وانتصر وحقق حلمه بالشهادة، وانتصر على اليهود."
الشرارة التي أشعلت الغضب في السجون
لم تكن استشهاد خضر مجرد نهاية لقصة نضال فردية، بل كانت شرارة فجّرت الغضب داخل السجون، حيث شهد سجن "مجدو" في 3 مايو 2023 حادثة مؤثرة، حين هاجم الأسير محمد عبد الفتاح خروشة أحد ضباط الاحتلال، ردًا على اغتيال الشيخ خضر عدنان. الأسير خروشة، نجل الشهيد عبد الفتاح خروشة منفّذ عملية حوارة، نُقل بعدها إلى جهة مجهولة، وسط قمع شديد، وإغلاق كامل لأقسام السجن.
تدهور خطير في السجون بعد استشهاد خضر
استشهاد الشيخ عدنان سلّط الضوء من جديد على واقع الأسرى المأساوي داخل سجون الاحتلال، حيث تُمارس بحقهم سياسة ممنهجة من التعذيب الجسدي والنفسي، والعزل الانفرادي، والإهمال الطبي المتعمّد.
يعاني الأسرى من سوء تغذية حاد، حيث تُقدّم لهم وجبات طعام رديئة مليئة بالمواد الحافظة، مما يفاقم الأمراض في صفوفهم، من السكري والقلب، إلى السرطان والأمراض الجلدية والتنفسية.
ومع افتقار السجون للرعاية الصحية، تتحوّل الأمراض المزمنة إلى أحكام إعدام بطيئة، كما تنتشر حالات التلوث والازدحام وتدهور التهوية، مما يضاعف الأزمة.
أمّا العزل الانفرادي، فهو سلاح نفسي مروّع يستخدمه الاحتلال لكسر الأسرى، حيث يُسجن البعض لسنوات دون أي تواصل مع العالم، ما يؤدي إلى انهيارات نفسية واكتئاب واضطرابات عقلية متقدمة.
خضر عدنان.. باقٍ في الزنازين
رغم مرور عامين على استشهاده، لا يزال اسم خضر عدنان حيًا في ذاكرة الفلسطينيين، خاصة في الزنازين.. لم يمت خضر، بل توزّع صموده على أجساد آلاف الأسرى، وأصبح إضرابه مدرسة تُلهم المقاومين.. كان خضر أكثر من مجرّد شيخ أو مناضل.. كان جدارًا بشريًا يواجه الاحتلال بالجوع، بالصرخة، وبالكرامة.
في ذكرى استشهاده الثانية، نُعيد سرد قصته ليس كحكاية ماضٍ، بل كنبض حاضر يذكّرنا أن صوت الجوع يمكن أن يهزم القضبان.. وأن من يصمت بأمعائه قد يُدوّي صوته في قلوب الملايين.