لا أحد يقطن في عقل أسيرٍ يحمل ابنه البكر بين أحضانه للمرة الأولى، ولا في تفاصيل وجهه حين يضحك وتدمع عينيه في آنٍ واحد من خلف زجاج الزيارة، حين يرى الزيارة الأولى لقطعةٍ منه يحرم عليه أن يعيش حياةً طبيعيةً برفقتها، الرعشة الأولى حين يضع قبلةً على جبينها فتبكي ويرتبك هو، ثم ما يلبث يفكر داخل نفسه، ربما خافت مني فهي لم تستيقظ في هذه الحياة على وجهي، ويحيل أفكاره حديثاً حين يوصي زوجته أن تري طفلته دائماً صوره وتحدثها عنه حتى تعتاده كجزءٍ من حياتها حتى وإن كان بعيداً.
كانا زوجين في بداية حياتهما، لا زالت أحلامهما قيد الولادة، أسماء طفلهما القادم تشتعل في رأسهما فرحاً حين يفكران في تفاصيله وكيف سيبدو ومن سيشبه أكثر، كانت بانتظارهما حياةٌ من الهدوء والخطط الجميلة والمتواضعة، قبل أن ينتهك الاحتلال أحلامهما وتفاصيل الفرح وخطط الاستقرار.
الأسير مؤمن موسى عبد الفتاح الأطرش (26عاماً) من سكان مدينة الخليل، حين نال حريته مطلع شهر آب في العام 2017، من سجون الاحتلال الصهيوني بعد قضائه قرابة العامين في الأسر، قرر أن يؤسس لنفسه حياةً طبيعية، فتزوج من جندية معركته المجهولة أم ندى، وكانا بانتظار وافدٍ جديدٍ سيسكن قلبيهما قبل أن تتغير الخطط بالنسبة لهما.
تروي زوجة الأسير مؤمن الأطرش التفاصيل الأولى للحظات اعتقاله وسلبه منها، تقول" بتاريخ 5/6/2018، كنا في شهر رمضان، كنا في زيارةٍ لأهلي، الوقت قد قارب على الفجر، وأتاه اتصالٌ من أحد أقربائه يخبره بأن جنود الاحتلال قد أصبحوا أمام منزله، فقررنا العودة للبيت".
كانت كلمات زوجها لها مطمئنة، قبل أن يصل الاثنان للمنزل ويحقق الاحتلال مع زوجها مدة ثلاث ساعاتٍ رفقة أبناء عمه، ثم تقرر الاعتقال، تقول زوجة الأسير مؤمن الأطرش" جاء على الفور وأخبرني بأنهم سيعتقلونه، أوصاني أن أهتم بنفسي وبطفلنا القادم وأن لا أخاف شيئاً، ثم ذهب".
بقيت زوجة الأسير مؤمن الأطرش متمسكة بقوله لها بأنه سيعود بعد أيام، فلا تُهم عليه، ثم مرت سبعة أيامٍ دون أخبار ودون تفاصيل عنه، وبالنسبة لها كان الأمر كأنها تموت في كل يومٍ يمضي دون خبر، حتى جاءت أخبارٌ من المحامي بأن زوجها في عوفر، لتعلم لاحقاً أن قراراً إدارياً صدر بحقه ومدته ستة أشهر.
لم تكن زوجة الأسير مؤمن الأطرش تعرف ماهية الاعتقال الإداري، ربما هي ستة أشهرٍ وسيعود إليها حراً، حتى علمت بأن التجديد سيأكل الكثير من حياتهم بعد، ثم جاءت ستة أشهرٍ جديدة وعلمت بأنها لن تكون الأخيرة، وأيقنت أنها ستنتظر بعد سنواتٍ من تجديد الاعتقال الإداري.
كعائلات الأسرى الإداريين تتمنى زوجة الأسير الأطرش لو أن حكمه كان فعلياً لا إداري، فبالنسبة لها قرار الاعتقال الإداري أشبه بمرض السرطان، تقول" جرى تمديد اعتقاله الإداري ثلاث مراتٍ قابلة للتجديد حتى الآن، في المرة الأولى لستة أشهر، وكذلك في المرة الثانية، ثم في المرة الثالثة مدة أربعة أشهر".
واجهت زوجة الأسير مؤمن الأطرش فوق الاعتقال الإداري معضلة جلب ابنتها إلى الحياة دون أن يقف زوجها معها في هذه اللحظات، تقول" لم يتواجد معي خلال فترة الحمل، ورزقنا بطفلتنا قطر الندى وكان في الأسر، كان كالمجنون لأنه ليس موجوداً بجانبنا، ثم زارته قطر الندى بعمر الثلاث أسابيع، حين رآها للمرة الأولى ضرب رأسه بزجاج شباك الزيارة، وغرقت عيناه بالدمع، وها هي الأيام تمضي، في كل زيارة أعطيه صوراً لها وأصطحبها معي كذلك".
اليوم أصبح عمر قطر الندى ثمانية أشهر، لكن لا شيء سيعوضها ووالدتها غياب أسيرهما، تقول زوجته" كانت أياماً صعبة، الأصعب حين كان يتحدث مع ابنته وهي لا زالت بعمر الشهر، والأصعب حين زارته مرة وحملها بين ذراعيه فراحت تبكي، فأخبرني: ربما لا تريدني، وأوصاني أن أريها صوره دائماً كي لا تنساه وتعتاد عليه".
قطر الندى بعمرها الصغير الذي لا يعرف من غطرسة الاحتلال شيئاً بعد خاضت لأجل والدها حرباً صغيرة ذات زيارة، تروي والدتها تفاصيل الموقف فتقول" في تلك الزيارة كانت تلبس قطعة ملابس عليها صورة لوالدها، وعلى الفور رفض الاحتلال إدخالي للزيارة، وكان شرطهم أن تخلع قطعة الملابس تلك، ثم سكبوا لها الحليب، وحرموها اللقاء، تلك الزيارة كان من المفترض أن تدخل فيها عند والدها، لكنهم أخبروني بأنه سيتم إدخالها مرة أخرى بعد 60 يوماً، وكان بالفعل قد مر 60 يوم منذ حملها في زيارةٍ سابقة"، على الفور تدخل والد قطر الندى، ورفض أن يعود إلى الخيام قبل أن يحمل ابنته، فتمت الزيارة رغماً عنهم وفرح بابنته وبزيارتها.
قطر الندى لا زالت بعمر الثمانية أشهر، لكنها ومع عمرها الغض هذا تستيقظ مع حافلات الزيارة الصباحية، وتجابه حرباً يخوضها أهالي الأسرى الكبار لتدخل لوالدها خلف شباك الزيارة وتعتاد عليه، فلا تُخدش روحه حين تبكيه كأنها لا تعرفه، وكي تعتاد مصطلح الأبوة حتى وإن كان من خلف الأسر، وتضع لنفسها أرشيفاً من المصطلحات الكبيرة تناسباً مع عمرها.