حين يتحضر صباحاً للذهاب لعمله ويصعد السيارة التي ستوصله إلى هناك، لا يستطيع أن يمنع ذهنه من تخيل سيناريو توقيف السيارة على الحاجز العسكري واعتقاله من جديد، لا أحد يعلم ما يسببه له منظر مشاهدة توقيف سيارة وتفتيش شبان على حاجز حوارة من هواجس، ولم يعش أحدٌ في جسده ذات ليالٍ لا تعد ولا تحصى حين يتم اقتحام بلدته بالجيبات العسكرية، ويتحضر هو حين يضع اعتباراً أن الاقتحام ربما من أجله ومن أجل اعتقاله لدى السجون من جديد.
يزاحمه هذا النوع من الشعور بشكلٍ خاص عقب حريته بأسبوعٍ واحد، يعيشه مطمئناً ثم تبدأ هواجس إمكانية إعادة الاعتقال من جديد تزور ذهنه وكامل تحركاته اليومية، وله في كل ذلك أعذارٌ مقنعة، فمنذ العام 1998 لم يعش حراً خارج قضبان الاعتقال أكثر من تسعة أشهر، وغالباً ما كان يتم اعتقاله بعد ستة أشهرٍ من حريته، وكانت مرةً يتيمة حين مكث حراً تسعة أشهرٍ قبل أن يعاد اعتقاله من جديد.
ثابت عزت نصار(40عاماً) من سكان بلدة مادما، قضاء مدينة نابلس، أسيرٌ بسجلٍ اعتقاليٍ يحفظه وحده وعائلته وأبناؤه الأربعة وتحفظه السجون وأروقة التحقيق والحواجز العسكرية وسجلات عمله وتعليمه ربما، فما يلبث أن يرتب حياته ويضع كل شيءٍ في مكانه ليبدأ من جديد، حتى تعود ملامح مداهمة المنزل وتكبيل الأيادي والانتظار والتمديد الذي سرق من عمره 15 ربيعاً.
مكتب إعلام الأسرى التقى مع المحرر ثابت نصار والذي نال حريته قبل أيام قليلة بتاريخ 26/6/2019، بعد اعتقالٍ إداريٍ في سجن مجدو دام عاماً واحداً، وبعد تمديدٍ لمرتين مدة ستة أشهر، وتحدث مطولاً عن حياته ما بين الحرية والأسر وأشهر الانتظار وتخيل إعادة حمله لكاهل الاعتقال الإداري على ظهره وظهر عائلته من جديد.
الإداري في قصته
لا أخبر بقسوة الاعتقال الإداري من الأسير ثابت نصار، ف12 عاماً من عمره سُرقت منه فقط في هذا النوع من الاعتقال، تعطيه الحق في أن يصف الاعتقال الإداري الوصف الأمثل في قصته، يقول ثابت نصار في وصف الاعتقال الإداري" إشكالية عدم معرفة الأسير موعد الإفراج الحقيقي والنهائي عنه من سجون الاحتلال، عقبةٌ لوحدها، فلا يقدر على ترتيب نفسه وحياته وكذلك عائلته، تمديداتٌ لا أعرف نهايتها وكذلك عائلتي، لا أقدر أن أعيش في السجن كأحدٍ يعرف هل سيعود في الغد لبيته أم لا، أهيأ نفسي أنا أو أي معتقلٍ إداريٍ ما للحرية ثم في اليوم التالي تسلب منا ونعطى قرار تمديدٍ جديد".
الأكثر قسوةً في قصة الأسير ثابت نصار ليس الاعتقال الإداري فقط، بل أن يكرر المشهد أمامه مراتٍ ومراتٍ ومرات إلى أن يصل إلى تسع اعتقالات، وأن تكون اعتقالاتٌ إدارية بأحكام متجددة لا يعرف نهايتها، وهو واقعٌ يعيشه كثيرٌ من المحررين الإداريين، فما يلبث الاحتلال يفرج عنهم حتى يعود لاعتقالهم من جديد والتهمة مجهولة.
يقول نصار" في آخر مرة خرجت فقط مدة خمسة أشهر، ثم أعاد الاحتلال اعتقالي من جديد، أكثر مرة قضيتها حراً هي تسعة أشهر، وهناك قصص لأسرى كمثلي، والاحتلال دائماً ما يبرر بأن الاعتقال يأتي بسبب قضايا قديمة، فأي تدخل للأسير الإداري المحرر في أي شيء أو في أي قصة في الحياة العامة وفي قضايا محيط بلدته مثلاً، يمكن أن يكون السبب في اعتقاله من جديد".
يستذكر الأسير المحرر نصار ما قبل حريته من اعتقاله الإداري الأخير، فقد قالوا له بأن وضعه أصبح مفهوماً بالنسبة له، وبأن أي قصة صغيرة ستعيده للأسر، وحتى إن لم يكن هناك قصة سيعاد إلى الأسر، وقيل له بأنه إن اختار أن يجعلوه عبرةً لغيره فسيجعلونه كذلك، ومهما حدث كل ستة أشهر سيتم اعتقاله.
الأسير ثابت نصار بالفعل صار مثالاً لعديدٍ من الأسرى في التحقيق، حين يقول لهم المحقق" أتعترفون بتهمكم أم نفعل معكم كثابت.."، فغالباً ما يجبر الأسير على الاعتراف، وإلا سيحال إلى ملف الاعتقال الإداري.
مخابرات الاحتلال ترغب في إيصال رسالة للناس، وترغب في أن تجعل من الأسير عبرة لمن حوله، حتى إذا فكر أحدهم بأي أمر سيكون الاعتقال الإداري والملف السري مصيره.
أرشيف اعتقالاته
ثابت نصار اعتقل أول مرة بتاريخ 12/8/1998 وبعد اعتقالٍ فعليٍ دام 27 شهراً، نال حريته بتاريخ 30/10/2019، ثم توالت اعتقالاته الإدارية باستثناء مرة اعتقل فيها فعلياً مدة 14 شهراً وقبل حريته بيوم أحيل للاعتقال الإداري، بتاريخ 3/6/2002 اعتقل وأفرج عنه عقب ستة أشهر، وأعيد اعتقاله بتاريخ 21/5/2004 وأفرج الاحتلال عنه بتاريخ 13/12/2006.
كما واعتقل بتاريخ 3/12/2007، ونال حريته بتاريخ 6/8/2009، وفي ذات العام اعتقل في شهر أكتوبر ونال حريته بتاريخ 8/8/2010، ثم اعتقل بتاريخ 9/5/2011 ثم نال حريته بتاريخ 30/1/2013، وبتاريخ 1/10/2013 اعتقل مجدداً ونال حريته بتاريخ 24/9/2015، ثم اعتقل لاحقاً في شهر أيار عام 2016، ونال حريته مطلع العام 2018، وصولاً لاعتقال الأخير وحريته قبل أيام قليلة، حيث اعتقل بتاريخ 28/6/2018، ونال حريته بتاريخ26/6/2019.
27 شهراً هي فترة الاعتقال الفعلي الذي قضاه الأسير ثابت نصار في الاعتقال حين كان بعمر ال18 عاماً، وفي ذلك الوقت تم محاكمته على قصة لا شأن له بها، ثم أفرج عنه لاحقاً وأعيد اعتقاله في المرة الثانية إدارياً، كما ويتذكر أن أحد اعتقالاته تضمن حكماً فعلياً مدته 14 شهراً، وحال انتهاء مدته تم تحويله للاعتقال الإداري المتجدد.
عامين مع عائلته
المحرر ثابت نصار تزوج في العام 2007 من الجندية المجهولة في معركته، زوجته رنا نصار، ومنذ ذلك العام وحتى اليوم لا تتجاوز السنوات التي عاشها مع عائلته مجتمعة السنتين أو الثلاثة، فقد تزوج وقضى مع عائلته فترة وجيزة ثم اعتقل وكان وزوجته بانتظار ابنهما البكر يامن، وحين نال حريته كان قد أصبح عمره عاماً كاملاً.
لعائلة نصار أربعة أبناء، هم يامن وأمل وميس وأحمد، لم يحضر ولادتهم وفي السابقة التي حدث فيها ذلك مع ابنته ميس، اعتقل في ذات اليوم، يقول نصار" حضرت ولادة ميس، كانت تلك الفترة الأطول التي بقيت فيها حراً مدة تسعة أشهر، وقد رزقنا بها عصراً، وجرى اعتقالي في ذات الليلة".
تتمثل الصعوبة في إعادة تأقلم الأطفال مع حياة المنزل وعودة والدهم أو اعتقاله مع أعمارهم واستيعابهم للحدث، يحاول والدهم في الفترة التي يقضيها معهم حراً أن يخفف عنهم ويبقي الأمور مستقرة، ثم يعود الاعتقال الإداري من جديد، يقول نصار" إن موضوع الاعتقال الإداري يأتي في إطار الانتقام، كثيرة المناسبات التي لم أحضرها، والتي اعتقلت مع اقترابها، لأشعر في كل مرة أن اعتقالي مجرد انتقام، يريد من خلاله الاحتلال أن يوصل لي رسالة بأني لن أستطيع أن أحيا حياةً طبيعية".
دراسة منذ العام 2001
درس المحرر ثابت نصار ما بين اعتقالته، دبلوم تمريض في كلية الروضة، وتمكن من اجتيازه بعد أربع سنوات، وهو يتطلب سنتين فقط، لاعتقالاته المتكررة، كما وكان التحق بالتعليم في جامعة القدس المفتوحة عام 2001، وحتى هذا اليوم وبسبب اعتقالاته لم يستطع أن يجتاز سوى ما يقارب ال70 ساعة، وفي العام 2008 اضطر أن يغير تحصصه من خدمة المجتمع إلى الإدارة الصحية لطول فترة بقائه في الجامعة دون أن يتخرج.
يقول نصار واصفاً المرحلة التعليمية" كنت أقدم الامتحانات النصفية ثم يعتقلني الاحتلال قبل موعد امتحاناتي النهائية، وهنا أنوه بأن التعليم في القدس المفتوحة والجامعات لا يسمح للمعتقل الإداري أن يكمل دراسته من أسره، فهناك شرطٌ بأن يكون حكمه الفعلي متجاوزاً للأربع أعوام، أنا لم يكن يسمح لي أن أدرس لا خارج الأسر ولا حتى داخله، الانقطاع عن الدراسة ليس جيداً، ولا الانقطاع عن العمل، فعملي في مجال الأدوية حساس، وحين اعتقل وأنال حريتي أعود لأنشط معلوماتي من جديد".
المحرر ثابت نصار يعمل كممرض في مستشفى رفيديا، وقد حاول مراراً أن يلتحق بجامعة لدراسة التمريض، وذات مرة حين كان بصدد مغادرة نابلس لبيت لحم تم إيقافه على حاجز عسكري وتقديم طلب استدعاء له.
يوضح نصار" حتى تنقلاتي يلاحقونها، أكثر من مرة حاولت الخروج لرام الله وكانوا يضعون حواجز خصيصاً لي، أشعر بأني أعيش خارج الأسر حياةً مؤقتة، أعيش فقط أول أسبوع في حالة اطمئنان، ثم أعود إلى شعور قرب الاعتقال، وإنسان يعاني من هذا الشعور من الصعب أن يفكر في أي نوع من المشاريع، دراسة كان أم عمل، هاجس الاعتقال مجدداً يحاصره، تكرار الاعتقال الإداري بهذا الشكل يعطي شعوراً بأنك مراقب ل24 ساعة تحت أعينهم".
التصدي للاعتقال الإداري يتم إما عن طريقة التعامل مع ملف الاعتقال الإداري عالمياً من خلال المطالبة بإلغائه أو تحديد سققف الاعتقال الإداري، أو عن طريق خوض إضرابات، والإضرابات الجماعية تكون أكثر قوة من الإضرابات الفردية والتي يهدد من خلالها الأسرى ذوو الأحكام الفعلية بسحب إنجازات معينة من الحركة الأسيرة بسبب خطوات الأسرى الإداريين الفردية والتصعيدية.
سياسة الاعتقال الإداري سياسة قاتلة تنتهك حياة الأسير وعائلته، فالأسير ثابت نصار يبذل جهداً كبيراً في ممارسة دوره الحقيقي كأب داخل أسره بعد حريته، وإعادة استكشافه لشخصيات أطفاله من جديد، ولا يستطيع أن يعيش حياته الطبيعية بمعزلٍ عن التفكير بإمكانية اعتقاله وسرقة حقه في الحياة بصورةٍ طبيعية مع أطفاله.