للأسرى عند لحظات الاعتقال ذكريات ممزوجة بالألم، المهندس القيادي وصفي قبها وزير الأسرى السابق يروي لمكتب إعلام الأسرى قصة اعتقاله الأخير قبل عام تقريباً في الخامس من تموز عام 2018، عندما صرخ بكلمة "يا الله" وهو محاط بالجنود ومعصوب العينين.
يقول المحرر قبها" كانت صرخة استغاثة تعكس حجم الألم والحزن والضيق والشدة ليلة الاعتقال، حيث اللجوء إلى الله ولا أحد غير الله، منذ أن تمَّ الإفراج عني والعشرات ممن التقيتهم يسألونني عن تلك الصرخة التي أوجعت قلوبهم وقلوب الآخرين، وأسالت دموعاً ورفعت أكفاً للتضرع من الله بأن يخفف عني".
يوضح قبها" هي الصرخة التي أطلقتها أثناء اعتقالي الأخير بتاريخ 5/7/2018 عندما صرخت يا الله، وسأل البعض فيما إذا تعرضت للضرب خلال الاعتقال، وسأل آخرون هل السبب كثرة الاعتقالات، حيث أمضي في السجن أضعاف ما أمضيه خارجه، وهنا لا بد من الإشارة إلى حقيقة تلك الصرخة، وكيف انطلقت بعفوية نتيجة جملة من الحقائق مرت بشريط أمامي عيناي المعصوبتان".
السجن والحرمان
يوضح قبها" بدايةً لا بد من الإشارة إلى أن السجن من أقسى العقوبات فالسجن ضيق، والسجن شدة، والسجن مرض، والسجن حرمان، والسجن ظلم، والسجن آلام وهموم متراكمة ومركبة بعضها فوق بعض، والسجن أحزان تتكاثر في حياة الأسير، لذلك لا أحد يتمنى السجن، ولكن إذا كان قضاء الله وقدره أن أكون في السجن، فذلك الخير لي، وكل أمر المؤمن خير إذا أصابته سراء شكر وإذا أصابته ضراء صبر، وهنا الدعاء المأثور "اللهم إني لا أسالك رد القضاء ولكن أسألك اللطف فيه".
يضيف قبها" عندما تضيق عليك الدنيا فقل يا الله، وعندما يتخلي الناس عنك ويخذلك القريب فقل يا الله، وعندما تنزل بك شدة وتزداد الأحزان عليك فقل يا الله، وإذا مرضت فقل يا الله، وعندما تُغيَّب خلف قضبان السجن وفي عتمة الزنزانة وتُسد في وجهك الأبواب وتقطع أمامك الأسباب فلا سبيل إلا التوجه إلى رب الأسباب والمسببات والقول يا الله".
يستذكر المحرر قبها محطاتٍ غاب عنها بسبب اعتقالاته، يقول" لقد تخرج ابني الوحيد وخمس من بناتي من الثانوية العامة، ولم أشارك أياً منهم فرحته لوجودي داخل السجن، وقد تخرجوا جميعاً أيضاً من الجامعة وأنا في السجن، ولم أحضر إلا حفل تخريج ابنتي البكر ريان من جامعة النجاح الوطنية، وكانت ابنتي بيسان سعيدة جداً بوجودي خارج السجن لأن موعد تخرجها كان يوم الخميس 5/7/2018 من الجامعة العربية الأمريكية، وإذا بي اعتقل صبيحة يوم تخرجها مما أحزنني جداً، وشعرت بضيق شديد".
يومٌ حافل
يصف قبها يوم ما قبل الاعتقال قائلاً" يوم الأربعاء 4/7/2018 قبل الاعتقال بيوم واحد، كان يوماً حافلا بالنسبة لي، انتهى بزيارة الأخ المهندس علاء الأعرج، وكان قد أمضى 28 شهراً في سجون الاحتلال، بعدها توجهت إلى بلدة عتيل في محافظة طولكرم، وشاركت الأخ الأسير المحرر همام عفيف العتيلي فرحة وسهرة حفل عرسه، وعدت بعدها إلى البيت قبيل منتصف الليل، أخبرتني ابنتي "آخر العنقود " بأن زوجتي وشريكة حياتي مريضة حيث دخلت الطوارئ عدة مرات قبل تلك الليلة، وقد قمت على الفور بواجبي بجلي كافة الصحون والطناجر ونظفت المطبخ وعملت غلاية قهوة، وللعلم لا أدري لماذا قمت بتوثيق ما قمت به من خلال جوالي".
يواصل قبها سرد الأحداث قبل ساعات من اعتقاله الأخير" كنت قد استأذنت ابنتي بيسان بأنني قد لا أكون معها طوال حفل التخرج، لأن خنساء فلسطين الحاجة صبحية رشدي القواسمي قد توفيت اليوم الأربعاء 4/7/2018، ومن الواجب أن أكون في بيت العزاء في الوقت المناسب وفاءً لروحها ولأبنائها الذين عشت معهم آلام القيد ومعاناة السجن، فهي والدة الشهيدين مراد وأحمد ووالدة ثلاثة أسرى حسين وحسام وزياد، حيث يقضي كل من حسين وحسام حكماً بالسجن المؤبد، وهي أيضا والدة الأسير المحرر محمود وهو مبعد إلى غزة، وهي والدة الأسير المحرر محمد الذي أفرج عنه فقط قبل يومين من وفاتها بعد أن أمضى حكماً لمدة ثلاثة أعوام في سجون الاحتلال".
يواصل قبها سرد الأحداث" اتفقت ورتبت أمر السفر مع الأخ الحبيب الشيخ نزيه أبو عون، وهو الآن في السجن وأدعو له بالإفراج، لأنني لا أستطيع الذهاب إلا في ذلك اليوم، وقد أخذت ابنتي بيسان على خاطرها وشكت الأمر لأمها، قلت لأمها من الممكن أن أحضر ساعة من حفل التخرج لأن الوقت لا يسعفني بأن أبقى طيلة الحفل، والفقيدة فقيدة الوطن والواجب يحتم الذهاب إلى الخليل وفاءً لتضحيات هذه العائلة المجاهدة".
ينوه قبها إلى التحضير لحفل زواج نجل الشهيد يحيى عياش، يقول"" كنت قد تبنيت أمر الدعوة العامة لحضور حفل زواج براء، ابن الشهيد يحيى عياش الذي كان يوم الجمعة 6/7/2018، قبل يوم واحد من اعتقالي، الأمر الذي أفسد عليَّ فرحة وددت مشاركته إياها وفاءً لروح والده الشهيد".
يتحدث قبها عن لحظات الاعتقال، يقول" جلست أتصفح الانترنت، ولم تمض إلا نصف ساعة، وقبل أن أكمل فنجان قهوتي وكان الوقت متأخراً جداً، وإذا بخفافيش الليل، فانتفضت زوجتي من نومها مذعورة لا تقوَ على الوقوف، وما أن وضعت غطاء الرأس، حتى كان جنود الاحتلال ينتشرون في زاوية من زوايا بيتي".
يصف قبها شعور عائلته لاعتقاله، يقول" لقد رأيت الحزن في عيني زوجتي، وكأنها تقول لي لماذا تتركني وحيدة مع وجعي وألمي ومرضي وأنا بأمس الحاجة إليك، وهي التي تتجلد على الدوام بالصبر ولا يهزها اعتقال لي ولا ينال من معنوياتها، ولكن رأيتها هذه المرة كسيرة الخاطر وأشد حزناً ولأول مرة من مرات اعتقالي الأربعة عشر مرة، قد رأيت الدموع في عينيها، ولسان حالها يقول "لماذا لا تشارك ابنتك فرحة تخرجها"، ودعتهم قبل أن تُعصب عيناي وتوضع الأغلال في يدي، والألم يعتصرني وقد قرأت كل الأسئلة في وجه زوجتي".
جندي ينتقم
يقول قبها"على باب شقتي المتواضعة في الطابق الرابع، نظرت وإذا بجندي عرفت ملامحه، فهو الذي قادني إلى السيارة في الاعتقال ما قبل الأخير، ووضعني على أرضية السيارة العسكرية وتحت أقدام جنود الاحتلال، وقد تعرضت يومها للإهانة والإذلال وأنا مطروح على أرض السيارة بين أقدامهم، فقلت له وأمام الضابط الذي اعتقلني وبالعبرية "أني مكيرتخا، أني زوخيرتخا" بمعني أنا عرفتك، أنا تذكرتك، فكان الرد بأن تمَّ شد القيود البلاستيكية في يدي، الأمر الذي ألمني جداً جداً، وعلى معبر الجلمة شمال مدينة جنين وبعد وصولي صرخت كثيراً لفك القيود أو تخفيفها، وكان الجندي قد جاء وأنا في إحدى غرف الجلمة ورفع العصبة عن عيني، ولم يتم الاستجابة لي بقطع القيود البلاستيكية التي أكلت من لحم يدي، إلا بعد فترة طويلة".
يختم قبها حديثه بالقول" أمام تلك الجملة من المواقف والمشاهد المؤلمة السؤال فقط لله والتوكل فقط على الله، وعندما تلجأ إلى الله فإن الله يحفظك وتجده اتجاهك، والله لن يضيِّع ندائك ولن يخيب رجاءك؛ فأنت تلجأ إلى الرب الرحيم اللطيف الخبير الذي رحمته وسعت كل شيء، لذلك صرخت يا الله".