لا تتلخص قضية إضراب الأسرى بمجرد تناقل إعلان دخولهم معركة الأمعاء الخاوية، فهناك كواليس ومراحل تمر بها عملية الإعلان عن الإضراب ويتكفل بها مجتمع الأسرى من ألفها إلى يائها للوصول إلى الهدف الحقيقي وراء الإضرابات الكبيرة، وهو خلق حياة داخل الأسر تليق بالأسرى كمحاربين من أجل شعبهم وقضيتهم.
مكتب إعلام الأسرى يرصد كواليس معارك الإضرابات من خلال مراسلات يبعث بها الأسير أحمد إبراهيم بسيسي(40عاماً) من سكان مدينة طولكرم والمحكوم بالسجن مدة 25 عاماً منذ اعتقاله عام 2004، عبر عائلته ومحاميه، تعرض صوراً لنضال الأسرى والمفهوم الأكبر للإضرابات الملحمية وآلية الحشد لها والتعبئة والظروف المناسبة للإعلان عنها وتأثير مساندة الشارع الفلسطيني على سير نجاحها.
مرحلة التخطيط
يتحدث الأسير أحمد بسيسي في مراسلاته حول سلسلة من المراحل التي تمر بها خطوة ما قبل الإضراب، ويبدأ بالحديث حول مرحلة التخطيط، يقول" ما يدفع الأسير أولاً للتفكير بالإضراب هو جملة من الأسباب، منها أسباب حقيقية، ومنها أسباب حياتية، بالنسبة للأسباب الحياتية للإضراب فهي تبدو في ظاهرها شكلية تتعلق بمتطلبات الأسير من حيث تحسين وضعه المعيشي في الأسر، لكن الأسباب الحقيقية للإضراب تتعلق بوعي الأسير في نفسه، فالأسير يؤمن بأنه صاحب حق في الحياة وفي الكرامة ويحتاج لتكريس إنسانيته من خلال حياة تليق به كمحارب، لأجل الحرية، لأجل الأرض، ولأجل الشعب".
يضيف بسيسي"لأجل كل ذلك على الأسير أن لا ينس نفسه وقدرها، وأن لا ينس من يكون هذا السجان ومن أين أتى، وأن يحافظ على مسافة محددة في تعامله معه، فيبدو الإضراب مواجهة ضرورية للإبقاء على جدوى المقاومة والصمود والوعي والبعد النفسي، وللإبقاء على قوة الأسير".
مرحلة التنسيق
تتبع مرحلة التخطيط للإضراب مرحلة التنسيق، وهنا يقول الأسير بسيسي" قبل بدء الإضراب يقوم الأسرى بالتشاور على مستوى كافة الأصعدة الحزبية، وعلى صعيد كل حزب لوحده، ويحصل استطلاع واستبيان للرأي من خلال اقتراع بالتصويت الحر والسري، وبالمناسبة فإن الديموقراطية داخل أقسام الأسر متفوقة بمهنيتها وآثارها على الديموقراطية خارج الأسر".
لاحقاً وإذا تقرر الإضراب، يبدأ مجموعة من الأسرى المختصين بإعداد نشرات ومحاضرات توعية، وفي الغالب تركز هذه النشرات والمحاضرات على الأسرى الجدد، أما الأسرى القدامى فليسوا بحاجة إلى توعية، فهم جاهزون ويعرفون ماهية المعركة تماماً.
يوضح الأسير بسيسي ماهية هذه النشرات، يقول" تركز هذه النشرات بدايةً على ضرورة تحقيق مطالب أساسية ضرورية وأن الأسرى بحاجة لها مثل، تحصيل العلاج، ووقف الإهمال الطبي، وإدخال الأبناء إلى الزيارة، كما أن هذه المحاضرات مهمة لتجنيب الأسرى آثار الهجمة اللاحقة لإعلان الإضراب، لأن إدارة السجون إذا شعرت بأي ضعف من ناحية الأسرى، تقوم بهجمة، فمثلاً ما حصل قبل أيام في قسم (3) في النقب وقسم (1) في ريمون يوضح بأن إدارة السجون تقوم بهجمة غير محسوبة العواقب، لذلك فإن إدارة السجون يجب أن تلمس من الأسرى دائماً النفس العالي والمعنويات المرتفعة والروح المتقدة، وإلا فإن إدارة السجون والحكومة الإسرائيلية من خلفها ستنكل بالأسرى وتصادر من عندهم كل شيء".
مرحلة التعبئة والتوعية
يتم توعية الأسرى بكل هذه الأمور، المستجدين منهم خاصة، حيث يتم تقديم نشرات للأسرى تتحدث حول ما سيواجهونه بعد دخولهم الإضراب، لأنه وبمجرد إعلان الأسرى للإضراب تعتبر إدارة السجون أن هذا الحدث، حالة تمرد يحق لها أن تقمعها بكافة الوسائل والأساليب.
عقب دخول الأسرى الإضراب بدقائق تدخل وحدات القمع إلى السجون وتصادر كل شيء، يقول الأسير بسيسي" كل شيء لا يتضمن فقط الفراش والأغطية والوسائد، بل وحتى الملابس، ويترك الأسرى في أوضاع لا إنسانية معيبة، لا يحتملها بشر، وبالمقابل يقدمون لنا ملابس قذرة رائحتها سيئة جداً، وكل هذا يتم توعية الأسير المستجد بأنه سيواجهه، وتوعيته حول كيف سيتعامل وهو مضرب، كيف سيشرب كميات الماء والملح، وبعد فك الإضراب كيف سيوقف أو يتفادى شعور الدوار والغثيان بأكبر قدر مستطاع، ويتم توعية الأسرى المستجدين بذلك خاصة".
يتذكر الأسير بسيسي كيف أنه في العام 2004 كان يتم عمل حملات إعلامية في السماعات وفي النشرات بخطابات تأتي لرفع معنويات الأسير، كما ويتم توعية الأسير بخصوص أي دعاية كاذبة أثناء الإضراب، وممن على الأسرى أن يتلقوا أخبارهم الموثوقة فقط.
منطقية الإضراب
يتناول الأسير بسيسي في مراسلاته جزئية منطقية الإضراب، يقول" أنا لن أذكر الموضوع هنا بعقلية الإنسان الجاهل والمندفع، لكن سأتناول هذه الجزئية من منطلق التجربة، فالإضراب عن الطعام شيء منطقي جداً؛ فهي حالة يقترب فيها الأسير من إنسانيته لأنه يعلن من خلال الأضراب رفضه للمهانة التي يتعرض لها، فالأنسان من ناحية منطقية ونفسية لن يكمل تناول طعامه وهو يتعرض للإهانة وانتقاص الكرامة والضرب والسحل والقمع، لأن هناك ما هو أهم بكثير من تناول الطعام، وهو أن يحمي الإنسان كرامته، فالإضراب هو اقتراب الأسير من إنسانيته وابتعاده عن البهائمية، وهنا الإنسان ينحاز لإنسانيته، فلا يستطيع أن يكمل طعامه وشرابه مهما كان لذيذا".
يوضح بسيسي" إذا إنسان فرض علينا حياة غير كريمة، نتصدى لذلك، نحن لا نكره الحياة، نحن نحب الحياة ونحب الطعام، وعلى العكس يكون الحديث الذي ينال حصة الأسد من أحاديث الأسرى أثناء الإضراب، عن الطعام، لكن حين يرتبط الأمر بالكرامة، بطريقة تقديم الطعام لنا، وطريقة مخاطبة من يقدم الطعام لنا، نضطر للتفكير بسبل مواجهة أخرى، وهي أن ننحاز لإنسانيتنا أكثر مما ننحاز لغريزتنا وحبنا للطعام".
الظروف الملائمة
تؤثر الظروف الخارجية الفلسطينية وظروف الاحتلال والظروف الإقليمية على إنجاح الإضراب، وكذلك على اتخاذ قرار بموعد الإضراب، فمثلاً في العام 2004، كان من أسباب عدم نجاح الإضراب هو الألعاب الأولومبية والمسابقات الغنائية، وهو ما أفقد الإضراب في ذلك الوقت قوته، يقول بسيسي" أتذكر كيف كان يتم مخاطبتنا عبر السماعات بما يحصل، وبأن الشارع منشغل بالأولمبيات، أخطأنا وقتها في اختيار وقت غير مناسب للإعلان عن الإضراب، كان كذلك هناك حصار للرئيس ياسر عرفات في المقاطعة، كانت الأنظار مسلطة نحو هذا الحدث، لذلك فإن اختيار الظرف المحلي السياسي والإقليمي مهم جداً لإنجاح الإضراب، والفترة الأخيرة وظروفها أنجحت الإضراب قبل أن يبدأ حتى، فقد كانت الظروف مواتية جداً، فالاحتلال لم يكن معنياً بإحداث تصعيد في الشارع الفلسطيني وهذا أيضاً ما حصل عام 1992، فقد كان الاحتلال معنياً بعدم تصعيد الأوضاع بسبب مشروع أوسلو، لذلك ينتظر الأسرى الظروف الملائمة، إلا في حالة واحدة، وهي إذا تم فرض الإضراب عليهم، وكان التصعيد من قبل إدارة السجون شديداً، ولم يكن هناك خيار أمام الأسرى إلا المواجهة".
الأسير بسيسي مر بأربع إضرابات خلال فترة اعتقاله منذ تاريخ 17/1/2004، ثلاث إضرابات منها كبيرة، وكانت إضرابات متفاوتة من حيث المدة، وهو يعلم كيف يمكن للأسير أن يضغط على إدارة السجون ليتم تحقيق مطالبه، يقول" هناك أمور نسعى لها خلال الإضراب، ويراهن عليها الأسرى لإنجاح إضرابهم، فحين يصاب الأسرى بأعداد كبيرة بتعب شديد، يكون هناك حاجة لنقلهم إلى العيادات والمستشفيات، بدايةً حين يصاب الأسرى بالتعب وقت الإضراب تصبح إدارة السجون تحت عبىء كبير في نقل الأسرى للعيادات، فيصاب طاقم إدارة السجون بالتعب والانهيار، وبعد مرحلة متقدمة من الإضراب، يصبح هؤلاء الأسرى بحاجة لعلاج طبي متقدم فيتم نقلهم للمستشفيات، والأسرى يراهنون أن نقل أعداد كبيرة منهم للمستشفيات سيصيب إدارة السجون بالرضوخ لمطالب الأسرى".
ويراهن الأسرى كذلك على أمور أخرى، وذلك من خلال إطالة مدة الإضراب، يقول بسيسي" إن إدارة السجون تخشى من موضوع سقوط شهداء، فهم يعرفون مدى حساسية الأسير الفلسطيني، وأن سقوط شهداء سيؤدي إلى توتر الأوضاع في الشارع الفلسطيني، وهم يقولون أن مطالب الأسرى لا تستحق أن يسقط ضحايا لأجلها على حد وصفهم، ما يضطرهم لإعطاء الأسرى مطالبهم العادلة".
الإنقسام والإضرابات
يتحدث الأسير بسيسي في مراسلاته حول أثر الانقسام على الإضرابات، يقول" قبل 16 عاماً، وقبل الانقسام، كانت الأمور أكثر سلاسة وعملية ومهنية، وكان الأسرى يجمعون أنفسهم ويتخذون قرارهم وإجراءاتهم ويضربون بتنسيق تام ووحدة، لكن بعد إضراب عام 2017، وبعد الإضراب الأخير قبل أيام أثبتت التجربة أن الانقسام وصل للأسرى، على الأقل من ناحية اتخاذ القرار، إن علاقات الأسرى الشخصية لا زالت موجودة وهي طيبة وحميدة، ولكن هذه الإضرابات كشفت كم تأثر الأسرى بالإنقسام".
يتذكر الأسير بسيسي كيف انتظم الأسرى في الإضراب في العام 2004، يقول" توحدنا في ساعات واتخذنا القرار بالإضراب بفترة قصيرة، وبدأنا لكن الإضرابين الأخيرين أثبتا أن الإنقسام أثر على أمور كثيرة في مجتمع الأسرى".
مرحلة الإضراب
بعد الإعلان عن الإضراب يقوم الأسرى بوضع كافة أغراضهم من طعام أمام الباب وتأتي إدارة السجون لأخذها، ثم تأتي وتصادر باقي الأشياء، يقول بسيسي" ففي الإضراب الأخير مثلاً تم مصادرة ملابسنا وإعطاؤنا ملابس برائحة سيئة، وبطانيات مكتوب عليها العام 1978 يتم إحضارها من المخازن ولا يمكن وصف مدى سوء رائحتها وقذارتها، وهي أول خطوات الإضراب، ودخول إدارة السجون للأقسام عقب الإضراب يكون غير متوقع، لكن نحن تعليماتنا تكون واضحة بعدم المواجهة، وعلى العكس نحن كنوع من المواجهة نستوعب الهجمة الأولى لأنها تكون هجمة مستفزة".
في الإضراب يعمد الاحتلال إلى نقل الأسرى، وهنا تكون البوسطة قاتلة، يقول البسيسي" البوسطة قطعة من العذاب للأسير في الوضع الطبيعي، فكيف إذا كان مضرباً عن الطعام، لليوم ال17 مثلاً، يتم نقل الأسير في طريق تستغرق عادة ساعة لكن يتم إطالة الطريق بقصد فتأخذ خمس وست ساعات وأكثر، وحتى لو تم نقل الأسير من غرفة لغرفة، المهم لدى إدارة السجون هو أن لا يتركوه ليرتاح".
قيادة الظل
يتوقع الأسرى عزل القيادات، وهنا يأتي دور ما يعرف بقيادة الظل، هذه القيادة لا يكون هدفها سوى تسيير واقع السجن أما بالنسبة للقرارات والتفاوض فهذه القيادة ممنوعة من هذا، وهي تنتظر تواصل الجهات المخولة بنقل الأخبار حول الإضراب لنقلها للأسرى وعندها فقط يعرف الأسرى متى يمكن فك الإضراب.
خلال أيام الإضراب ينشغل الأسرى بالتحليل مدة 24 ساعة، يتناولون في تحليلهم الشؤون الداخلية وما يحدث في أوساط الاحتلال، ومنهم من توقع أن لا يطول هذا الإضراب، وكل له أسبابه ومعطياته في التحليل، وغالباً فإن جملة المعطيات والظروف شاركت في أن يحقق الأسرى انتصارهم، يقول بسيسي" مثلاً تحقيق مطلب هاتف عمومي لنا ليس بالبسيط، خاصة لأسرى سجون الشمال، كما وندرك نحن الأسرى حاجة أسرى الرملة والأشبال والأسيرات لمثل هذا المطلب".
حين إعلان انتصار الأسرى يبدأ الأسرى مرحلة فك الإضراب، يوضح الأسير بسيسي في مراسلاته" نبدأ بشوربة نسميها نحن الأسرى بشوربة "ولا إشي"، وهي عبارة عن ماء وماجي، أو نفطر على كأس من الشاي، ولا يمكن تخيل مدى طيبة طعم الشوربة والشاي، ترتد فينا الأرواح".
شعور الجوع يخلق لدى الأسير حالة إنسانية من الإحساس بالجائع والشعور بالنعمة، كما ويخلق عقب خلط الأسرى من كل الأقسام والفصائل حالة من التقارب، الأسرى يؤمنون بأن هذا العدو عاش حياتهم في معتقلات النازية وجاع، لكنهم يدركون أنه يطبق أمراضه النفسية عليهم، فالتعامل مع الأسرى في الآونة الأخيرة لا يمكن وصفه بأقل من أنه تجاوز كل حدود الفاشية والتطرف على حد وصف الأسرى.
تضامن الشارع
يحاول الأسرى خلال فترة الإضراب تهريب الراديو، فمن خلاله يستمعون إلى أخبار التضامن، يتم كتابة الخبر على كرتونة ونقلها بين الأقسام لقراءة نشرة اليوم، لذلك فإن أي فعالية للأسرى تسعد قلوبهم، وحين لا يكون هناك تضامن ويبدأ السؤال عن نشرة الأخبار يتذرع الأسير والقسم الذي فيه الراديو بأن هناك عطل فيه أو في البث؛ لإدراكهم بمدى تأثير أي خبر وأي التفاف حولهم، فالأسير يؤمن أن أبناء جلدته حين يتركوه وحيداً للمواجهة إنما يحكومون عليه بأن يستفرد الاحتلال في قمعه والتنكيل به.
يختم الأسير البسيسي رسائله بذكرى قتلته ذات مرة، يقول" أتذكر مرةً قمع إدارة السجون لنا في سجن نفحة، تم معاملتنا بوحشية وتكبيلنا بسلاسل الحيوانات، كنا في أيامها قد هرَّبنا راديو، وحين فتحته لأسمع الاخبار على محطة محلية ووجدت أغاني عاطفية، كان وقع الأمر علي أشد من العصي والتنكيل والضرب الذي تعرضت له، نحن كأسرى نتوقع التضامن، وأي تضامن سيشعرنا بالقوة فلا تستهينوا به".