في ظلمة الزنازين الباردة التي تحمل بين تشققاتها عقودا من القهر؛ تنبثق القصص التي يكاد لا يصدقها عقل بشري، فذاك أنجبت ابنته التي كانت جنينا حين اعتقل؛ وذاك تزوج ابنه الذي لم يكن قد أكمل العام حين اعتقل، وهذا عاش في العزل عقدا كاملا وذاك نهش المرض جسده وهو لا يحصل على الدواء عقاباً وظلماً.
ولكن من أبرز القصص التي تتربع على عرش الحركة الأسيرة هي حكاية ذاك الطود الشامخ الذي ما عرف للكلل معنى؛ الأسير القائد نائل البرغوثي "أبو النور" (61 عاما) صاحب أعلى مدة يقضيها أي أسير في العالم .
كسرت المقاومة قيده عام 2011 بعد أكثر من ثلاثة عقود على اعتقاله منذ سبعينيات القرن الماضي ولكن كما هي عادة المحتل في خفر العهود أعاد اعتقاله قبل أربعة أعوام .
وتقول زوجته الأسيرة المحررة إيمان نافع لـ مكتب إعلام الأسرى إن قوات الاحتلال اعتقلت زوجها في الثامن عشر من يونيو عام 2014 بعد نجاح المقاومة في قطاع غزة بأسر الجندي الصهيوني "شاؤول أرون" إبان معركة العصف المأكول التي مرغت أنف الاحتلال.
وخلال تلك الحملة اعتقل الاحتلال عشرات من محرري صفقة وفاء الأحرار في الضفة المحتلة وأعادهم إلى ظلمة السجن من جديد، ولكن المأساة الأكبر كانت حين أعاد لهم أحكامهم المؤبدة.
وتوضح نافع بأن الاحتلال أصدر حكما في البداية على زوجها بالسجن لمدة 30 شهراً ظلماً وزوراً دون أي ذنب ثم انتظرته العائلة للإفراج عنه ولكن تفاجأت بإعادة حكم السجن مدى الحياة، ليؤكد ذلك على سادية المحتل في التعامل مع أبناء شعبنا الفلسطيني، وتدخل دوامة أخرى من الانتظار والشوق.
نائل البرغوثي ذاك الفدائي الذي اعتقل شابا في الرابع من أبريل عام 1978، كان في الثامن عشرة من عمره يدافع عن وطنه السليب بقوة عزيمته، اعتقل من منزله في قرية كوبر شمال رام الله بعد اقتحام همجي لم يتح للعائلة الوقت حتى لفتح الأبواب، يومها خلط الجنود المواد الغذائية وحطموا النوافذ واعتقلوا نائل وأجريت له سلسلة محاكمات بتهمة المشاركة في مقاومة الاحتلال، ليمضي في الأسر 34 عاما قبل أن تكسر المقاومة قيده عام 2011 ضمن 1057 أسيرا وأسيرة.
قوة العقيدة
يقبع الأسير حاليا في سجن بئر السبع جنوب فلسطين المحتلة، هو لم يمض فترة الأسر بائساً بل كان يشع أملاً لكل من حوله من الأسرى، كان وما زال لهم الأب والأخ والصديق المازح الذي يخفف وطأة الاعتقال على من حوله، كما كانت له كتابات مختلفة ودراسات أجراها أظهرت قوة إرادته وعدم استسلامه لجدران السجن.
وتوضح نافع بأن زوجها يدخل يوم السادس عشر من نوفمبر عامه التاسع والثلاثين في الاعتقال ولكنه رغم كل هذا الظلم الذي واجهه لم يتأثر معنوياً وبقيت إرادته صلبة وبقي محافظا على صفاته الطيبة التي كان يتمتع بها سابقا.
منذ ثلاثة أشهر لم تتمكن نافع من زيارة زوجها عميد الصبر بسبب ما يسمى بالمنع الأمني للزيارة؛ حيث يتعمد الاحتلال التضييق عليه حتى وهو داخل الأسر ويحرم زوجته التي ارتبط فيها بعد تحرره في صفقة وفاء الأحرار أي عقب 34 عاما من الاعتقال.
وتؤكد الزوجة أنها لم تتمكن من زيارته سوى بضع مرات قليلة منذ إعادة اعتقاله عام 2014 بينما يحق للأسير الحصول على زيارتين شهريا أي بواقع 24 زيارة كل عام!
ومنذ إعادة اعتقاله لم تألُ نافع جهدا في تدويل قضية زوجها وتعريف العالم على ما مر به من ظلم وقهر.
وتتابع:" نائل يعرف أننا على حق وهو يناضل لأجل قضية عادلة للوصول إلى النصر على الاحتلال؛ اعتقاله ظالم وغير قانوني وبات يمثل رأس الحركة الأسيرة لأنه أمضى أكثر من ثلثي عمره في السجون والزنازين ورغم ذلك يمدنا بالمعنويات والقوة لأجل إكمال رسالته".
شهادة حية
كل من عايش الأسير القائد البرغوثي يحمل في قلبه شهادة حيّة حول ما يملكه الأسير من قوة عقيدة ومعنويات تناطح السحاب ونور علمٍ يتوسع شيئا فشيئا، حيث يعتبر كل من عايشه أن الأسير أبو النور من أرقى الشخصيات التي تعاملوا معها أبداً وأنه رغم كل ما مر به لا يزال نموذجا للصبر والتواضع.
بدوره يؤكد الأسير المحرر القيادي فازع صوافطة من طوباس شمال الضفة أنه عايش الأسير القائد البرغوثي في سجن عسقلان بين عامي 1999 و2000، وأن تلك الفترة كانت كفيلة بأن يكوّن صورة مشرقة له.
ويقول لـ مكتب إعلام الأسرى إن البرغوثي كان طوال الوقت متفائلا ويتمتع بمعنويات عالية ووضعه النفسي مريح جدا ودائم الابتسامة بل ويوزع المعنويات على إخوانه الأسرى، مبينا بأن سنوات الأسر لم تكسر عزائمه ولم تثبط نشاطه.
ويضيف:" أبو النور نشيط وخادم لإخوانه وذو تواضع رهيب جدا حيث لا يتوانى عن القيام بأي عمل لخدمة الأسرى كإعداد الطعام أو أعمال التنظيف، علاقته مع الجميع إيجابية مفتوحة وابتسامته لا تفارقه وكان يخرج للعب الرياضة بشكل يومي".
وحول كنز المعرفة الذي يمتلكه يؤكد صوافطة بأن أبا النور دائم القراءة ولديه علم وثقافة عاليين بل يعتبر مخزنا تاريخيا وكل تاريخ السجون وحتى تاريخ الثورات في العالم يدرك أحداثها ومعانيها وتفاصيلها.
ويتابع:" هو رمز للثورة وعميد للأسرى وكل المعاني ذات المستوى الراقي تتمثل في نائل".
أمل لا يغيب
عائلة الأسير البرغوثي كما آلاف العائلات الفلسطينية التي تنتظر شمس حرية جديد بفضل الله أولا ثم المقاومة الثابتة على وعودها ثانياً، فلا تكل ولا تمل في انتظار أخبار مفرحة تعيد الابتسامة لها.
وترى العائلة بأن الاحتلال وفي الوقت الذي يدخل فيه الأسير عامه التاسع والثلاثين في الاعتقال ينقض عهده مع المقاومة ويقوم بعملية جبانة في محاولة لكسرها؛ ولكن ما حدث من يقظة ومتابعة من قبل المقاومين يجدد الأمل في قلوب أهالي الأسرى لأنه يؤكد أن هناك مقاومة حريصة على أبنائها ومتمسكة بكل حقها بل وكفيلة أن تعيد أبناءهم في وقت ما قد يكون قريبا.
وتعبر العائلة كذلك عن خيبة أملها في الوقت ذاته من موقف بعض الدول العربية التي تهرول لإقامة علاقات مع الاحتلال بينما تتناسى معاناة آلاف الأسرى منهم الأطفال والنساء والمرضى والمؤبدات وغيرهم.