مجهولةٌ هي سنوات الأسر إلا للأسرى، مبهمةٌ تفاصيل العزل الإنفرادي، حتى وإن قال أحدهم أنه تخيلها، وصعبٌ تدارك معنى القمع الليلي وصوت البساطير وبرد ساحة السجن والريح التي تكاد تحدث ثقوباً في الوجوه، لا أحد يعلم معنى العد الصباحي، ومعنى مدافن الأحياء، ومعنى حافلات الموت، وكراسي الحديد القاتلة والفتحة الصغيرة في البوسطة تلك التي تشرف قليلاً على حياةٍ أخرى تستمر خارج الأسر في حين توقفت لديهم.
بالنسبة للأسرى تخيل أن الحياة اسمرت من بعدهم ومن بعد سنوات اعتقالهم الصعبة ولم تتوقف أمرٌ صعب، ويحتاج إلى حربٍ تستعاد فيها مكانتهم من الحياة ومواقعهم، أي شيءٍ بالنسبة لهم يمكن أن يُحدث فرقاً، أي تفصيلةٍ صغيرةٍ في حياتهم، حتى أن دخول أسيرٍ جديدٍ لقسمهم سيحدث فرقاً لا يوصف، رائحة حبة فاكهةٍ لم يروها منذ دهرٍ حين تنتشر في القسم ستحدث فرقاً، فماذا لو كانت فرحةٌ بأملٍ في حياةٍ جديدة، ومستقبلٍ بدأت صياغته داخل الأسر حتى ما قبل التحرر.
القصة خرجت من منزل عائلةٍ تتصيد الفرح منذ 16 سنة، أن تجلو الابتسامة أحزانهم ويسمح لهم الوقت الدنيوي أن يأخذوا حصتهم موفورةً من السعادة، حتى في الوقت الذي يُقيد فيه عمر أسيرٍ خلف قضبان الأسر، وتمر الحياة مسرعةً بعيدةً عنه وكأنه لم يعد جزءاً من بلاده.
من سجن النقب الصحراوي حيث أعداد الأسرى المتراكمة، خرجت فرحةٌ لأسيرٍ طلب من تفاصيل الحياة أن تنصفه بارتباطه من خلف قضبان الأسر، وكانت الناشطة صمود سعدات ملبيةً لهذه الفرحة، وجذراً فيها، بمباركة من أسيرٍ مناضلٍ وقيادي وأمين عام الجبهة الشعبية، هو أبيها.
قبل أيامٍ أعلن عن فرحةٍ ما بين مخيم بلاطة في مدينة نابلس ومدينة رام الله، فرحةٌ أحد أطرافها أسير والأخرى ابنة أسيرٍ أيضاً، مكتب إعلام الأسرى تحدث إلى الناشطة صمود سعدات، ابنة الأسير القيادي أحمد سعدات الذي يقضي حكماً بالسجن مدة 30 عاماً، حول إقدامها على خطوة الارتباط بالأسير عاصم الكعبي(40عاماً)المحكوم بالسجن مدة 18 عاماً، وتبقى له ثلاث سنوات على إنهاء مدة حكمه كاملة داخل السجون.
تقول سعدات"عملي في مؤسسة الضمير واطلاعي على قصص الأسرى كان دافعاً كبيراً لقبول الارتباط بالأسير عاصم الكعبي، كان لي معرفة بعائلته بحكم عملي، وحالما حدث الإنسجام الفكري والإنساني بيننا قررت العائلتين الإعلان عن قراءة الفاتحة بتاريخ 29/3/2018، على أن نستكمل الخطوات اللاحقة منتصف شهر نيسان".
تضيف صمود سعدات"أنا أعرف معنى السجن جيداً، فأبي أسير، وأنا ممنوعة من رؤيته وحظيت بهذه الفرصة مرة واحدة عام 2015، بعد تسع سنوات تماماً من اعتقاله، ومنذ ذلك الوقت لم أره بتاتاً، وأعلم جيداً كيف يعمل الأسرى على تحدي عتمة الزنازين وظروف الأسر".
غالباً ما يلجأ الأسرى للإعلان عن هكذا أفراح تحدياً لظروف السجن القاسية، ولكسر العزلة، فالأسرى مدركون تماماً أن غاية مصلحة السجون هي عزلهم تماماً عن العالم الخارجي، وإلغاء حياتهم، ويكمن تحديهم على طيلة هذه السنوات أن لا يدعوا هذه العزلة تدمر كيانهم، وتسلب منهم إنسانيتهم وشخصياتهم والأهم، أحلامهم.
على صمود سعدات أن تصبر الآن لثلاث سنوات حتى تلتقي خطيبها الأسير عاصم كعبي، تقول"أرى هذا قليلاً أمام ما قدم، صحيحٌ أننا لم نعش حياتنا بفعل ممارسات الاحتلال وضغوطه، وصحيحٌ أن اتخاذ هكذا قرار كان صعباً، لكننا نحن قادرين على خلق نوع من التواصل مع الأسرى وكسر البعد والحاجز ما بين حياتنا وحياتهم".
في ذكرى ميلاد صمود تقرر عمل مهرجان جماهيري يعلن فيه رسمياً عن خطبتها على الأسير عاصم الكعبي، ولم يكن احتفالاً عادياً، فقد حضره عدد كبير من ذوي الأسرى كاسرين بذلك حواجز غياب أبنائهم وعدم استطاعتهم مشاركة هذه العائلة فرحةً رغبت أن تدق أبوابهم منذ سنوات، ومتناسين أيضاً جزءاً من آلامهم.
صمود تؤكد أن الأسر لا يكسر إرادة الأسير وإنسانيته، لا يلغيها، وحين تواصلت مع عاصم شعرت بأنه وغم مرور 15 عاماً أنهاها الأسير الكعبي اليوم تماماً، إلا أنه لا زال مناضلاً وشخصاً شفافاً.
توضح صمود سعدات"عاصم تعرض لظروفٍ اعتقالية قاسية، على صعيدٍ شخصي وعلى مستوى الحركة الأسيرة التي شارك في العديد من معاركها، قُمع أكثر من مرة، وتعرض للعزل، طارده الاحتلال قبيل اعتقاله ثلاث سنوات، توفيت والدته وهو داخل الأسر قبل ثلاث سنوات، ورغم ذلك لا زال شفافاً، مخلصاً، إنسانياً".
قصة أفراح الأسرى في عائلتي الكعبي وسعدات ليست الأولى من نوعها، هناك العديد من القصص التي لا تزال معلقة لأسرى داخل السجون، ولقصصٍ اختارت أن ترتبط بمفاهيم التضحية، لأسرى اختاروا أن يكون لهم بصمة في حياةٍ تسير مسرعة خارج أقسامهم، ولم تتوقف لأجلهم.