ربما لم تسجل عدسات الإعلام وأقلامه ضحكات جنان ودانية ونور علي نزال، وهن يحتضنّ شقيقهن شريف للمرة الأولى، تحت تعليمات من حضر من الكبار، بعد أن رزقهم الله إياه عقب تدشين الأسرى لعهدٍ جديدٍ من المقاومة، وبدء مقاومة تهريب النطف من داخل سجون الاحتلال طلباً للحياة خارجها، في ثالث محاولةٍ تخوضها الحركة الأسيرة منذ العام 2012.
سفير الحرية الطفل شريف علي نزال، يماثل في عمره اليوم المدة التي لم تر فيها شقيقاته والدهن خلف شباك الزيارة، وقرابة ضعف المدة التي لم تره فيها زوجته، 4سنوات حرمت فيها جنان ودانية ونور من رؤية والدهن، و10 سنوات حرمت فيها زوجته من رؤيته، بحجة المنع الأمني، لكن شريف الصغير لابد عوضهم هذا الحرمان والألم، بضحكاته وأولى خطواته ولحظات نمو أسنانه، حتى تناست العائلة بعضاً من ألمها.
الأسير علي شريف نزال يعد من أقدم الأسرى الذين خاضوا تجربة إنجاب سفراء للحرية، وتحديداً يأتي في المرتبة الثالثة عقب الأسير عمار الزبن من نابلس، والأسير عبد الكريم الريماوي من رام الله، الذين أطلقوا طرق مقاومة يفخر الشعب بها وتغيض الاحتلال، فقد تمكن من التغلب على سجانه وتهريب نطف للخارج رزق بعدها بطفله الأول شريف.
أقدم سفراء الحرية
من نابلس إلى رام الله إلى قلقيلية، سلم الأسرى الثلاثة عمار الزبن والمحكوم بالسجن المؤبد ل27مرة، والأسير عبد الكريم الريماوي والمحكوم بالسجن مدة 25عاماً، والأسير علي نزال والمحكوم بالسجن مدة 20عاماً إضافة إلى ستة شهور أخرى، شارة سفراء الحرية لأسرى آخرين، لتبدأ الأفراح بزيارة بيوت الشعب الفلسطيني بعد سنوات من الألم، ومن التسليم بأن مدافن الأحياء ستحرمهم حق الحياة بكل تفاصيلها.
مهند عمار الزبن (6 سنوات) من نابلس، يعتبر أول فرحةً قلبت موازين الحياة وعنفوانها لذويه، أول فرحة لم تزر بيت عائلته فقط، بل زارت بيوت الكل الفلسطيني، ودشنت عهد الفرح والأمل لقلوب عشرات العائلات التي تفتقد أسرى من أصحاب الأحكام التعسفية، والتي تتجاوز في غالبيتها العشرين عاماً.
للأسير عمار الزبن، ابنتين كزهر الرمان وأكثر، تكبران أعمارهما بمراحل، وتسترقان السعادة من الحياة، رغم مواجع الدنيا التي ألقت بابتلائها على عائلتهم فأخذت منهم جدة استشهدت بعد إضرابها عن الطعام نصرة لابنها، وسلبت منهم أباً يعيش حكماً لا يعرفون متى سترفع الستارة عنه، وأفقدتهم جداً وعمهم الشهيد بشار الزبن، فكان معنى أن تزور العائلة فرحةُ ما لأول مرة منذ 16عاماً من توالي هذه الأحداث الدامية، الوقع الكبير والجميل.
تقول بشائر الزبن، ابنة الأسير المناضل عمار الزبن" لقد كان مهند أول فرحةً لنا بعد 16عاماً من الألم، صحيحٌ أنها كانت منقوصة لعدم وجود والدي معنا، لكنها كانت فرحة عارمة بكل المقاييس، لدرجة أنها لم تكن فرحتنا فقط، بل شاركنا فيها الغريب قبل القريب".
حين تأكد خبر وفود مهند إلى الحياة، أخذ والده الأسير عمار الزبن، وحسب وصف العائلة، يعد الأيام لا بل الدقائق لقدوم ابنه الأول، حتى رزقت العائلة على خير بمهند، الذي كان أول اسمٍ للفرح في قاموس عائلات سفراء الحرية.
عائلة الأسير عمار الزبن لم تنفرد فقط بأول تجربة في هذا الإنجاز، بل وكررت التجربة، لترزق بنجلها صلاح الدين عام 2014، وتعم الفرحة عائلة الأسير مرةً أخرى، تأكيداً لأحقيتها في الحياة، ولأن الأسرى من أفراد الشعب الذين يحبون الحياة إذا ما استطاعوا إليها سبيلاً.
ما يغفل عنه كثيرون هو أن التجربة لم تكن بالسهلة على زوجة الأسير الزبن ومن بعدها زوجات الأسرى من أصحاب القضية ذاتها، فهي كانت تعاني ألم فقد زوجها، وألم الحمل معاً، لكنها وابنتيها بشائر وبيسان تمكنتا من حصد فرحةً من هذه الحياة، حتى أن تاريخ الفرحة عالقٌ في ذهنيهما، يتذكرن صوت ضحكات الأطباء في ذلك اليوم، والابتسامة التي رسمت على وجه كل من حضر الموقف، وكل من علم به لاحقاً، والتي ترسم اليوم على وجهيهما مع قدوم كل سفيرٍ للحرية وكأنه يخصهم، وكأنه ابنٌ جديدٌ لعائلتهم.
تضييقات انتقامية
مجد عبد الكريم الريماوي(5 سنوات) من رام الله، ثاني سفراء الحرية، يقبع والده تحت حكم 25 سنة، كان عليه أن لا يدعها تغلب أملهم في الحصول على مولودٍ ثانٍ بعد ابنته رند، لكن الأسير الريماوي اشترك مع الأسير علي نزال، والد ثالث سفراء الحرية، شريف نزال، في تنغيص الاحتلال عليهم أفراحهم وحرمانهم من حق الزيارة، بحجة المنع الأمني الفضفاض، والذي تتيقن عائلات سفراء الحرية بأنه انتقامي.
الأسرى الذين خاضوا هذه التجربة، تعرضوا لتضييقات انتقامية، ولم يكن الاحتلال ليتركهم وشأنهم، نظراً لحالة الأمل التي خلقوها في الشارع الفلسطيني، فبعض زوجات الأسرى حرمن من حق رؤيتهم لسنوات ولا زلن، كما حرم أبناؤهن، وحرم سفراء الحرية الصغار من هذا الحق.
ومزيداً من التنكيل، فرض الاحتلال بحق الأسرى ممن خاضوا هذه التجربة، غرامات مالية، وعقوبات عامة منها تحويلهم للعزل الانفرادي والتنغيص على حياتهم داخل الأسر، لكن كل هذا لا يمكن أن يقف أمام فرحتهم الكبيرة بسماع خبر وفود قطعة من أرواحهم للحرية، يتنفسونها بدلاً عنهم، ويبعثون في قلوب من تركوهم خلفهم بعضاً من أمل.
إحصائية الحياة
أهالي الأسرى أيقنوا مع اتساع بقعة تجارب سفراء الحرية، بأن الاحتلال مهما حاول فلن ينجح في قتل حياة الأسرى وسلخ قضيتهم من أذهان الشعب الفلسطيني، فعائلة الأسير علي محمد القيسي، من سكان مدينة جنين، قررت وعقب 14 عاماً من الألم، أن تخوض تجربة سفراء الحرية، علّ الفرح يدخل بيتهم أيضاً.
تقول زوجة الأسير القيسي"لم يكن الأمر سهلاً أبداً، 14 عاماً من الانقطاع عن تجربة الحمل، كما أن عمري كان 38 عاماً، ما يشكل خطراً أكبر، وكذلك أنجبت بعملية قيصرية، لكن الفرحة كانت لا توصف".
سفير الحرية طفل الأسير القيسي، قلب موازين الحياة لأسرته الصغيرة المكونة من أبٍ بعيد وأمٍ مكلومة وأخته الرقيقة غادة، تروي زوجة الأسير القيسي تفاصيل من يوم الفرحة فتقول" كان زوجي يعلم بكل ما يحدث معنا، وكانت فرحته عظيمة، لقد تغيرت حياتنا جميعاً وامتلأت بهجة بعد كل هذه السنوات، خشيت أن أحادثه بداية الأمر مخافة أن تنساب الدموع من عيني فيبكي هو أيضاً، حتى تحاملت على نفسي وأوصلنا له خبر الفرحة، فكان أن لم ينطق بكلمة واحدة من جمال الموقف".
لأنه جاءهم كالغيث فرجاً، أسمته عائلته غيث، وكان أن جلب الغيث لحياتهم، وملأ عليهم أركان البيت، كما دفع بالأمل في قلب والده بأن سنوات أسره ال21 ستنتهي أقرب مما يتخيل.
الأسير أيوب عبد الكريم، كان آخر فرحةً ستتكرر لا محالة، من أفراح قضية سفراء الحرية، فقد رزقه الله قبل أيام بطفله مجاهد، بعد سبع سنوات سجنٍ، ليضيء له ما تبقى من عتمة حكمه البالغ 13 سنة، وهو ليس الأسير الأول من قطاع غزة الذي ينجح في الانضمام إلى مجتمع سفراء الحرية المقاومة، فقد سبقه عدد من الأسرى منهم أحمد السكني والذي رزق عام 2015 بطفلين عبر النطف المهربة أسماهما سوار ومعتز، وكذلك الأسير فهمي أبو صلاح الذي رزق عام 2014 بأسعد سفيراً للحرية.
اليوم تشير الإحصائيات إلى أن هناك 65 سفيراً للحرية موزعين على كافة أنحاء مدن وقرى فلسطين، يحملون أملاً جديداً لآبائهم الأسرى من ذوي الأحكام العالية، ويسجل العام 2018 وفود أول سفير للحرية من قطاع غزة يحمل اسم مجاهد، في حين سجل العام 2017، وفود سبعة من سفراء الحرية، منهم توأم، وهم غيث نجل الأسير علي قيسي من سكان جنين، وهاجر وعبود نجلي الأسير قاسم عكليلك من سكان نابلس، وعبد الرحيم نجل الأسير عماد فاتوني من سكان سلفيت، وعلي نجل الأسير أحمد شاهين، من سكان مدينة القدس، وإبراهيم نجل الأسير يحيى حمارشة، من سكان طولكرم، وسعد نجل الأسير إيهاب أبو نحل من سكان قطاع غزة.
عدد من الأسرى كرروا تجربة تهريب النطف مرتين، ومنهم الأسير عمار الزبن من سكان مدينة نابلس، فقد رزق بمهند عام 2012، وبصلاح الدين عام 2014، والأسير يحيى النمر حمارشة، من سكان طولكرم، فقد رزق عام 2014 بطفلة أسماها ياسمين ثم رزق عام 2017 بطفل أسماه إبراهيم.
الإحصائيات تشير كذلك، إلى أن العام 2014 سجل أكبر عدد من سفراء الحرية، ومن بين الأسرى حيث يزيد عددهم في ذلك العام عن ال11 سفيراً، منهم عمر ويوسف أبناء الأسير زياد قواسمة، من سكان الخليل، وزيد وزين أبناء الأسير عطا عبد الغني من سكان طولكرم، وتوأمان لكل من الأسير محمد بسيوني وصالح خضورة، من سكان قطاع غزة.
حق مشروع
مراكز مختصة بإجراءات التلقيح كمركز رزان التخصصي لعلاج العقم وأطفال الأنابيب، لا تقوم بإعلان نجاح تجاربها الخاصة بالأسرى وسفراء الحرية هباءً، ورغم توقع إلحاق الضرر بهم، بل تهدف من وراء ذلك الضغط على المؤسسات الحقوقية والمجتمع الدولي، بالسماح للأسرى من ذوي الأحكام العالية بالحصول على حقهم المشروع في إخراج نطف لهم بطريقة عادية لا تقتضي التهريب.
مركز رزان أشار في أكثر من مناسبة إلى أن شروط التلقيح تخضع لمعايير خاصة وبشهود من عائلة الأسير وأمور توثيقية تحتاج جهداً وتعاوناً، على أن المركز يقدم هذه الفرصة فقط للأسرى من ذوي الأحكام العالية ومجاناً.
حق الحصول على أبناء للأسرى من أصحاب الأحكام المؤبدة يجب أن يتم تناقله في أوساط الشارع الفلسطيني بمزيد من الزخم، فقضية سفراء الحرية يجب أن تكون حقاً مشروعاً لا تعيش على إثره عائلات الأسرى خوف النجاح من عدمه، ولا خوف حرمانهم لاحقاً من رؤية أسيرهم، وخوف عزله الطويل وفرض غرامات بحقه.