داخل قاعة مستشفى ناصر في خان يونس، يلتقي الضوء البارد مع رائحة الموت والانتظار الطويل. على الشاشات تتكدس صور الجثامين، وجوه بلا ملامح، وأجساد مشوهة تحمل آثار التعذيب والرصاص والشنق. هنا، بين الجماجم والأيادي المبتورة وقطع الملابس الممزقة، يجلس الأهالي صامتين، وقلوبهم تخفق في صمت ثقيل، يبحثون عن بصيص أمل يقودهم إلى أحبائهم الذين فقدوا منذ عامين.
رحلة البحث عن أحبائهم
نبيلة راضي، خمسينية، فقدت ابنها عبيدة في أكتوبر/تشرين الأول 2023. تحدق في الشاشة بعيون دامعة وتهمس: "عامان وأنا أبحث عن وجهه بين المجهولين… قلبي يحترق قبل عيني."
حياة مصبح تحتضن طفلتها الصغيرة، تبحث عن زوجها المفقود محمد إبراهيم، وتقول: "نأمل أنه حي… الغموض يقتلنا، لا نعرف إن كان شهيدًا أم أسيرًا."
مشاويخ، نجل المفقود حمّاد سليمان، يمرّ بأصابعه على الصور باحثًا عن أبيه بين الجماجم المشوهة: "الصور تفتح الجروح وتقلب المواجع… لكننا نستمر بالبحث."
زوجة سليمان عبد الخالق العطار تحتضن طفلتها، تكتم شهقاتها: "جئت أبحث عنه، لكن لا ملامح، لا أي إشارة… فقط الصمت والفراغ."
والدة نور سهير أبو طيبة تتابع الصور بعيون ملطخة بالدموع: "جئت لأبحث عن أي أثر… لكن الصور زادت النار اشتعالًا في قلبي."
علامة صغيرة تقرّب الفقد
سيدة أخرى تعرفت على جثمان زوجها من دبلة الزفاف التي لم تفارق إصبعه: "عرفته من دبلة زواجنا… هذا كل ما بقي لأتمسك به، كل شيء آخر اختفى، لكن هذا الخيط الصغير جمعني به للمرة الأخيرة."
وفي مشهد مماثل، جلست أسماء الصانع، زوجة الشهيد سلامة العروقي "أبو يحيى"، أمام صور الجثامين: "كنت أبحث لا عن يقين، بل عن بقايا وداع… عن ملامح أنتمي إليها قبل أن تذوب في العدم." بعد عامين من الغياب، جاء الاتصال المرتقب: "لقد وجدنا أبو يحيى." هرولت نحو المستشفى، وعرفت جثمانه من ملابسه، وبكت وانهمرت دموعها بعد كل عامين من الصبر واللوعة.
أما أفنان القريناوي، فقد تعرفت على زوجها حامد عبر علامات جسده الصغيرة: "عرفته من أظافره، ومن الشق الأيمن في وجهه، ومن إصابة قديمة في ظهره… أخذوا منه كل شيء، لكن لم يأخذوا يقيننا." ألبست أطفالها الثلاثة أجمل الثياب، وقالت لهم: "اليوم سنستقبل أباكم… على الأقل صار له قبر نزوره، ومكان نحدثه فيه."
إحصائيات وأرقام صادمة
استلمت غزة من الاحتلال 315 جثمان، وتم التعرف حتى الآن على 91 جثمانًا فقط. الفحوص الطبية والميدانية أظهرت آثار تعذيب، تقييد بالأصفاد، حروق ودهس بآليات عسكرية، ما يؤكد تعرض بعضهم لعمليات إعدام ميداني بعد اعتقالهم. الاحتلال عمد إلى احتجاز الجثامين في الثلاجات ودفنها في مقابر الأرقام، في ممارسة تتنافى مع القيم الإنسانية والاتفاقيات الدولية التي تضمن احترام الموتى وكرامة الجثامين.
بدوره، قال مكتب إعلام الأسرى إن هذه الإجراءات تمثل انتهاكًا صارخًا لحقوق الإنسان، وتزيد من معاناة العائلات، مؤكداً أن "التعتيم على مصير الشهداء واستمرار حرمان الأهالي من بيانات الجثامين يؤجج الألم النفسي ويزيد من حجم الصدمة التي تعيشها الأسر الفلسطينية منذ سنوات".
في قاعة مستشفى ناصر، بين الضوء والظلّ، بين رائحة الموت والرجاء، يجلس الأهالي أمام الصور ذاتها، كل واحد يحمل صورة قلبه المفقود: ابن، زوج، أب، أو أخ. وبين الجماجم وبقايا الملابس، يظل الأمل معلّقًا كهمسٍ خافت من الأرواح المفقودة: "لا تنسونا… نحن هنا، ننتظركم."