رجل يخرج من الزمن
نائل البرغوثي.. حكاية عمرٍ عالق بين قضبان وسقوف الانتظار

في قرية "كوبر"، الواقعة على سفوح رام الله، وُلد نائل البرغوثي في عام 1957، في بيت فلسطيني بسيط، لم يكن يزخر بالكثير من الرفاهية، إلا أنه كان مليئًا بدفء العائلة ورائحة الأرض التي تربى فيها.  

كان طفلًا عاديًا في قرية فلسطينية نائية، يتنقل بين الحقول، محاطًا بعائلة تعلمه أن للحرية ثمنًا غاليًا، وأن هذا الوطن لا بدّ أن يُدافع عنه حتى آخر لحظة.  

كان والده قد عانى من السجن تحت الانتداب البريطاني، فيما استشهد خاله في ثورة 1936، وعلى هذا الأساس، نشأ نائل وهو يعلم أن الطريق إلى الحرية محفوف بالكثير من التضحيات.  

في عام 1978، كان نائل في العشرين من عمره عندما اعتقل بتهمة تنفيذ عملية فدائية ضد الاحتلال الإسرائيلي.

حكم عليه بالسجن المؤبد، بالإضافة إلى 18 عامًا إضافية، كانت تلك البداية لحياة طويلة مليئة بالألم، حيث انتقل نائل بين الزنازين والمعسكرات، ليقضي 45 عامًا خلف القضبان، معلنًا بذلك رقماً قياسيًا في تاريخ السجون الفلسطينية، وهو أطول فترة اعتقال لأي أسير فلسطيني.

زواج في الظل

في عام 2004، وعلى الرغم من أنه كان لا يزال خلف القضبان، قرر نائل أن يتزوج إيمان نافع، المرأة التي أحبها.  

لم يكن مثل أي زواج تقليدي؛ فبينما كان يقبع في السجن، تم الزواج عبر وكالة شرعية، دون أن يتمكن من لمس يد زوجته أو رؤيتها كما يفعل الأزواج في حياتهم العادية.

كانت العلاقة تقتصر على الزيارات المحدودة التي كانت تسمح بها إدارة السجون، ولكن رغم كل القيود، كانت إيمان صامدة، تزوره كلما أتيحت الفرصة، وتحمله في قلبها في الأوقات التي كانت تُمنع فيها الزيارة.

لم يكتبوا رسائل على الواتساب، ولا تحدثوا لساعات عبر الهاتف، ولكن كان الحب متجذرًا بينهما رغم المسافات والجدران التي تفصل بينهما.

من شاب إلى أسطورة

مرت عليه حكومات، وزارات، ورؤساء، واتفاقيات، وانتفاضات، وتغير العالم من حوله، دون أن يغيّر السجن شيئًا من إنسانيته.  

حين أُفرج عنه عام 2011 ضمن صفقة "وفاء الأحرار"، خرج رجلٌ هادئ، نحيل، لكن في عينيه لهبٌ لا ينطفئ.

كان قد قضى حينها 34 عامًا متواصلة في الأسر، وهو رقم لم يسبقه إليه أحد.

الضربة الثانية

في عام 2014، أعادت سلطات الاحتلال اعتقاله بعد أحداث الخليل، وقررت إعادة الحكم السابق بحقه بذريعة "خرق شروط الصفقة".  

دخل السجن مجددًا، كأنّ الحرية كانت حلمًا عابرًا، هذه المرة، لم يكن في العشرين، بل في الستين، لكن السجن لم يفلح في كسر ما تبقى من العمر.

البيت الذي ينتظر ولا يهرم

في كوبر، كان البيت ما يزال كما تركه، والدته زرعت شجرة ليمون باسمه في الحديقة، وكانت تقول: "هاي الشجرة ما بتموت، مثل نائل"، لكنها ماتت قبل أن تراه، ومات أبوه، لم يُسمح له بوداعهما، لم يُفتح له باب جنازة، ولا فُرش له بيت عزاء، وحدها الذاكرة كانت تأويه.

الحرية المؤجلة مجددًا

في فبراير 2025، خرج نائل البرغوثي أخيرًا، ضمن صفقة تبادل جديدة، لم يكن خروجه عاديًا، لكنه جاء مشروطًا: بالإبعاد، لم يُسمح له بالعودة إلى بيته في كوبر، تم ترحيله إلى مصر.

كلماته الأولى بعد الإفراج

في حديثه الأول بعد الإفراج، قال نائل: "45 عامًا من الأسر لا تكسر إنسانًا آمن بقضيته، لكنها تسرق أعمارًا، لحظاتٍ، وتفاصيل لم نَعِشها، لا أبحث الآن عن انتقام، بل عن بيت، عن جلسة مع زوجتي، عن حياة عادية تأخرت كثيرًا."

وأضاف: "كل لحظة صمدتُ فيها كانت بفضل أمي، وأبي، وزوجتي، وأبناء شعبي. هذه ليست حكايتي وحدي، بل حكاية وطن لا يركع".

بين الغياب واليقين

إيمان نافع، التي لم تره منذ أكثر من عشر سنوات، عبّرت عن مشاعرها في لقاء صحفي قائلة: "نائل مشتاقة لك. أنا مشتاقة لكل شيء فيك. مشتاقة تحكيلي: صباح الخير، وتنام وأنت مرتاح. الله بيعلم شو في قلبي".

ورغم قرار الإبعاد، رفضت الاستسلام، هي تنتظر أن يعود، أن يُلغى القرار، أن تبدأ معه حياة لم يُمنحا منها إلا القليل.

أخيرًا.. نائل البرغوثي لم يكن يومًا سجين رقم كذا، ولا مجرّد اسم في ملف أمني، هو ذاكرة وطن، وأرشيف صبر، وصوتٌ يشهد أن هناك رجالًا لا تكسرهم السجون، بل يصنعون من ظلامها شمسًا لمن بعدهم.

اليوم، بعد كل هذه السنين، لا يبحث نائل عن بطولة، يبحث فقط عن لحظة هدوء، عن وجه إيمان في الصباح، وعن صوت الأرض في المساء، عن حياة بسيطة.. تأخرت كثيرًا، لكنها تستحق أن تُعاش.

جميع الحقوق محفوظة لمكتب إعلام الأسرى © 2020