من اللاشيئ يمكن صنع كل شيء.. قاعدة يعتمدها الأسرى الفلسطينيون في سجون الاحتلال منذ اليوم الأول لبدء حياتهم الاعتقالية، فعلى اختلاف سبب اعتقال أي أسير، فالحياة لا بد أن تكمل طريقها بانتظار لحظة الإفراج التي تحددها فصائل المقاومة ويجبر الاحتلال على الخضوع لها، لذا كان لزامًا على الأسرى أن يصنعوا لنفسهم حياةً يستبشرون فيها مواجهة ظلم الزنازين.
ومن اللاشيء صنع أجواء رمضانية يشعر بها الأسير بقليل من الروحانيات، ويتقرب بها إلى الله، مناجيًا إياه التحرير العاجل وأن يحفظ له عائلته خارج الأسر، ويطيب خاطره ونفسه بقليل من الحلويات والأكلات التي يمكن إعدادها بأقل الإمكانات المتوفرة، ويسر الواحد منهم إلى نفسه أنه انتصر على السجان رغم كل وجع وقهر.
وشهور رمضان التي مرت على الأسرى قبل حرب الإبادة على قطاع غزة، كان يمكن فيها للأسير أن يتصل بعائلته ويعرف أخبارهم، ويتنسم منهم عبق الروحانيات المطلوبة لاستمرار الصمود والتحدي ومقارعة السجان، غير أن كل الميزات على قلتها سحبها السجان من الأسرى العزل انتقامًا منهم؛ كونه لم يكن أمامه غير "فش الغلّ" بالأسرى بعد أحداث السابع من أكتوبر المخزية له.
فالمحرر الغزي ماجد فهمي أبو القمبز في الدفعة السابعة والأخيرة من المرحلة الأولى لصفقة طوفان الأحرار، والذي اعتقل في عام 2006، وحكم عليه بالسجن 19 عامًا، قضى منها في السجون 18 عامًا ونصف العام، يقول: "رمضان الأخير أثناء حرب الإبادة أجبرنا الاحتلال على أن يمر كأنه يوم عادي وحتى أقل!"، مشيرًا إلى أنه كان ممنوعًا على الأسرى الشعور بالفرح أو أية أجواء رمضانية!
فمع بدء حرب الإبادة على قطاع غزة، عمد الاحتلال بالتزامن على التنغيص على حياة الأسرى، وسحب كل ما يمكن أن يتوفر من أغراض قليلة جدًا في الغرف، ولم يبقى فيها غير غطاء للنوم، ومنشفة صغيرة، وحذاء بسيط!
حتى أن السجان لا يحتاج مبررًا ليقمع أي غرفة ويقتحمها ضاربًا الأسرى فيها، ومعتديًا عليهم بأبشع الألفاظ، فمن الممكن والكلام للمحرر أبو القمبز أن يتسامر أسيران ويضحكان سويًا، ويتصادف ذلك بمرور أحد السجانين، فيثور غضبًا ويتهمهما أنهما يضحكان عليه، ومهما حاولا الأسيران التبرير، لا فائدة!، فما هي إلا وسيلة يعتمدها السجان ليهب قامعًا الغرفة بمن فيها، ولا عزاء للأسرى!
"إذًا كيف مرّ آخر رمضان على الأسرى قبيل تحررك؟".. يصف أبو القمبز رمضان الأخير بالمختلف جدًا.. فإدارة السجن التي تقدم للأسرى وجبة أرز يومية لا تتعدى 50 جم أو 70 على الأكثر، لم ترفع الكمية إلى 150 جم مثلا، بل أبقت على الجرامات القليلة التي لا تسمن ولا تغني من الجوع!
وليتحايل الأسرى على قلة الطعام قبيل الإفطار في يوم رمضاني عادي يلجؤون لجمع وجبات الإفطار والغداء والعشاء لتناولها خلال وقت الإفطار، ولزيادة الكمية توضع عدة قطع من الخبز مع كمية الرز المتاحة، وإضافة الشوربة والكثير من المياه، بطريقة النقع قبل موعد الأذان بنصف ساعة على الأقل حتى تتجانس المكونات سويًا ويصبح طعمها مقبولاً نوعًا ما، وإحساس الشبع للأسرى لا يتم إلا بالكثير الكثير من الماء!
والصلاة التي كان يمكن أن يغض النظر عنها قليلا قبل الحرب، باتت خلال الحرب ممنوعة، وإن أراد الأسرى أداء صلاة الجماعة فلا بد أن تكون سرية حتى وإن كانت فرضًا جهرية، ويمنع رفع الأذان، أو قراءة القرآن بصوت عال!
أخيرًا تحرر أبو القمبز، لكنه ترك خلفه زملاء أسرى ما زالوا يعانون الضرب والقمع والتعذيب والإهانات اللفظية، والإهمال الطبي، وقلة الطعام، وعدم معرفتهم بأخبار ذويهم خارج الأسر في إطار تعتيم الاحتلال المتعمد عليهم، بل وإيصال أخبار مغلوطة عن ارتقاء عوائلهم لقتل معنويات الأسرى، فحتى أبو القمبز ذاته لم يعرف مَن مِن أفراد عائلته ما يزال على قيد الحياة، ومن ارتقى في حرب الإبادة إلا بعد الإفراج عنه من سجون الاحتلال!