في ظلِّ صمتِ القوانينِ الدوليةِ، تنهضُ جدرانُ "سديه تيمان" كشاهدٍ أسودَ على فصلٍ من فصولِ العارِ الإسرائيليِّ، حيثُ تتحوّلُ الزنازينُ إلى مسارحٍ للانتقامِ المُمنهجِ. هنا، خلفَ القضبانِ المُغلقةِ، يُجسّدُ الاحتلالُ أبشعَ أدواتِ السحقِ: من تكسيرِ العظامِ بالهراواتِ إلى تمزيقِ النفوسِ عبرَ عزلاتٍ لا تنتهي، مروراً بجرائمَ جنسيةٍ تُلامسُ حافةَ الإنسانيةِ.
أسرى غزةَ، الذينَ خطفهم الجيشُ بعدَ السابعِ من أكتوبرَ، يصبحونَ أرقاماً في سجلِّ التعذيبِ اليوميِّ: يُجردونَ من أسمائِهم، يُحشرونَ في أقفاصٍ معدنيةٍ، ويُحاكمونَ بلا محاكمةٍ. قصصُهم، التي تتدفقُ من تحتَ الأبوابِ المؤصدة، تحكي كيفَ يتحوّلُ الجسدُ الفلسطينيُّ إلى ساحةٍ لـ "انتقامِ المُستعمِرِ".. وكيفَ تُختَزلُ الكرامةُ إلى مجردِ ذريعةٍ للبقاءِ على قيدِ الألمِ.
"سديه تيمان" ليست سجناً.. إنها مرآةُ نظامٍ عنصريٍّ يُعيدُ إنتاجَ جرائمِ الماضي بأدواتِ الحاضرِ، بينما العالمُ ينشغلُ بمسرحياتِ الدبلوماسيةِ الفارغةِ. هنا، حيثُ تنهارُ كلُّ اتفاقياتِ جنيفَ تحتَ أقدامِ الجلادينَ.
مؤسسات الأسرى توثق عمليات القتل المدروس
أعلنت هيئة شؤون الأسرى والمحررين ونادي الأسير الفلسطيني عن استشهاد المعتقل الفلسطيني مصعب هاني هنية (35 عاماً) من غزة، في سجون الاحتلال الإسرائيلي بتاريخ 5 كانون الثاني/يناير 2025، بعد اعتقاله من مدينة حمد في 3 آذار/مارس 2024. وبحسب عائلته، لم يكن هنية يعاني من أي مشاكل صحية قبل اعتقاله، وهو أب لطفلٍ وحيد يبلغ تسع سنوات.
بهذا الاستشهاد يرتفع عدد الشهداء بين صفوف الأسرى والمعتقلين المعلومة هوياتهم بعد حرب الإبادة إلى (59) شهيداً، من بين بينهم (38) شهيداً من غزة، علماً أن الاحتلال يواصل إخفاء عشرات الشهداء بين صفوف معتقلي غزة.
الشهيد المعتقل هنية، هو الشهيد الـ(296) بين صفوف الأسرى والمعتقلين المعلومة هوياتهم منذ عام 1967، وهو الشهيد الـ(68) من بين صفوف الأسرى المحتجزة جثامينهم، من بينهم (57) منذ بدء حرب الإبادة، فيما لا يزال عشرات الشهداء من معتقلي غزة رهن الإخفاء القسري.
حيث أكد مكتب إعلام الأسرى أن استشهاد مصعب هنية جاء نتيجة التعذيب الوحشي والإهمال الطبي المتعمد، ما يعكس سياسة الإعدام البطيء التي ينتهجها الاحتلال ضد الأسرى الفلسطينيين. محذرا من أن هذه الجرائم تنذر بسقوط المزيد من الشهداء إذا لم يكن هناك تحرك جاد لإنقاذ الأسرى الذين يعانون داخل زنازين الموت البطيء. وشدد المكتب على ضرورة ملاحقة قادة الاحتلال قانونيًا، وتقديمهم إلى المحاكم الدولية على جرائمهم بحق الأسرى، والتي ترتقي إلى مستوى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
شهادات صادمة
كشفت شهاداتٌ صادمةٌ من داخل سجون الاحتلال عن تفاصيل تعذيب الأسير الفلسطيني مصعب هنية حتى وفاته، حيث أكّد شهود عيان أن قوات السجن قامت بإدخال (عصا خشبية في مؤخرته) بشكل متكرر ومتعمّد على مدار أيام، مما تسبّب في نزيفٍ حادٍّ وآلامٍ مبرحةٍ أدت إلى وفاته. وأشارت الشهادات إلى أن هذه الممارسة لم تكن استثناءً، بل جزءاً من سياسةٍ ممنهجةٍ لتحطيم كرامة الأسرى وإخضاعهم عبرَ انتهاك جسدهم بشكلٍ وحشيّ.
كما كشف الناجون عن استخدام إدارة السجون الإسرائيلية كلاباً بوليسيةً مدربةً لترهيب المعتقلين واعتداءهم جسدياً، حيثُ أُطلقت هذه الكلاب بشكلٍ متعمدٍ على هنية وغيره من أسرى غزة المُحتجزين منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، ما تسبب في إصاباتٍ بالغةٍ بينهم، في مشهدٍ يُجسّد تحويل السجون إلى فضاءٍ للعنف.
وأكّد الشهود أن هذه الانتهاكات تُنفَّذ بإشرافٍ مباشرٍ من قادة السجون، كأداةٍ عقابيةٍ جماعيةٍ ضد الأسرى الفلسطينيين، خاصةً من قطاع غزة، في انتهاكٍ صارخٍ للمواد (1) و(2) من اتفاقية مناهضة التعذيب الأممية، والمادة (13) من اتفاقية جنيف الثالثة الخاصة بمعاملة الأسرى.
هذه الروايات لا تعكس فقط جريمةً فرديةً، بل تكشف عن منظومةٍ قمعيةٍ تستهدف إبادة المقاومة الفلسطينية معنوياً وجسدياً، عبرَ تحويل التعذيب إلى "طقسٍ يومي" يُمارس تحت غطاء الإفلات من العقاب الدولي.
بدوره كشف المُعتقل الفلسطيني المُحرَّر أدهم منصور (45 عاماً) من جباليا شمال قطاع غزة، عن تفاصيل صادمة لانتهاكاتٍ ممنهجة يتعرض لها الأسرى في سجون الاحتلال، منها استخدام الكلاب البوليسية في اعتداءاتٍ جنسية، وإدخال أجسامٍ خشنةٍ في أعضائهم التناسلية كشكلٍ من أشكال التعذيب الجنسي المُمنهج.
وأوضح منصور – الذي اعتُقل في 22 كانون الأول/ديسمبر 2023 – خلال مؤتمرٍ صحافي في رام الله، أن الأسرى يتعرضون لـضربٍ مبرحٍ وإهاناتٍ مهينةٍ وظروف اعتقالٍ لا إنسانية، مشيراً إلى أن "الاحتلال لا يكتفي بذلك، بل يُحوِّل الكلاب إلى أداةِ تنكيلٍ جنسيٍّ، حيثُ تعرّض بعضُ الأسرى لـاغتصابٍ بواسطة هذه الكلاب، بينما أُجبر آخرون على تحمّل إدخال عصي خشبية في مؤخراتهم كجزءٍ من تعذيبهم اليومي".
كما كشف عن حادثةٍ أخرى وصفها بـ"الوحشية" في سجن عوفر بالضفة الغربية، حيث شهد أسيرٌ فلسطيني (27 عاماً) اغتصاباً جماعياً باستخدام أنبوب طفاية حريق: "تم تقييد يديه، وإجباره على الاستلقاء، ثمّ إدخال الأنبوب في فتحة شرجه وتشغيل الطفاية، فيما كان الأسرى يُرغمون على مشاهدة الجريمة".
التفاصيل التي يكشفها الأسرى المحررون لا تُثبت فحسب استمرارَ آلةِ التعذيب الإسرائيلية، بل تُبرز أيضاً تواطؤاً دولياً في السماح بتحويل السجون إلى مسارحَ لـجرائم حربٍ مُمَأسسة، تُمارس تحت شعاراتٍ أمنيةٍ واهية.
إدانات دولية لمنهجية إسرائيل في تعذيب و قتل الأسرى.
أعرب الاتحاد الأوروبي عن "قلق عميق" تجاه تقارير انتهاكات حقوقية بحق معتقلين فلسطينيين، مُشيراً إلى مزاعم تعذيب واعتداءات جنسية في منشأة "سدي تيمان" العسكرية الإسرائيلية وسجون أخرى. ودعا المتحدث باسمه بيتر ستانو إسرائيلَ إلى فتح سجونها أمام مراقبين حقوقيين دوليين، خاصةً بعد انتشار فيديو يُوثِّق اعتداءاتٍ جنسيةً على معتقلين مُقيَّدي الأيدي. وأكَّد الاتحاد ضرورة التزام إسرائيل بالقانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، بغض النظر عن التهم الموجهة للمعتقلين.
كما طالبت المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بالتعذيب، أليس جيل إدواردز، إسرائيل بالتحقيق في قضايا تعذيب وغيرها من الانتهاكات، من بينها الاعتداءات الجنسية، بحق معتقلين فلسطينيين. وقالت إدوارد: "كيفية معاملتنا للآخرين في أوقات الأزمات تعد دليلا على مدى إيماننا بحقوق الإنسان"، مشددة على أنه "لا ظروف، مهما كانت استثنائية، يمكنها تبرير التعذيب أو المعاملة اللاإنسانية".