ربما يشرد بذهنه كثيرا حين تلامس قدماه أرض بلدته، وربما ينظر في وجوه الكثيرين من حوله فلا يتعرف عليهم، بل ربما يخطئ الطريق إلى منزله الذي تركه قبل أربعين عاما.. فعقود أربعة كفيلة أن تتغير خلالها حياة بأكملها!
عمر السجن أكبر من عمر ما قبله.. حقيقة مُرة قاسية تكاد تهاجم واقع الكثير من الأسرى، من بينهم الأسير كريم يونس الذي يقف الآن على ناصية الحرية وابن عمه ماهر يونس الذي يكمل بعد عشرة أيام أربعين عاما كذلك حفرت في جلودهما قسوة السجن وظلم السجان.
يغادر كريم اليوم "قلعته" التي كتب اسمه عاى كل جدار فيها، فأربعون عاما تكفي لكتابة مجلدات من الحكاية عن المعاناة، ولكنه آثر الصمت واكتفى بوقع الخبر "أسير يمضي ٤٠ عاما في الأسر"، يا لقسوته من خبر ويا لظلمه من واقع ويا لمرارها من حياة.
لم يعش كريم قسوة السجن فقط، بل مر بتجربة الحكم عليه بالإعدام وارتدى ملابس خاصة بذلك بعد اعتقاله عام ١٩٨٣ مع ابن عمه ماهر بتهمة قتل جندي صهيوني ومقاومة الاحتلال ضمن صفوف الثوار الفلسطينيين.
وبعد استئناف على الحكم تم إلغاء الإعدام والحكم بالسجن المؤبد الذي لم يكن وقتها محددا بسنوات معينة، ولاحقا تحدد بأربعين عاما لهما.
بعد عشرة أيام تقريبا سيعانق كذلك ماهر يونس الحرية كما فعل كريم، وسيلبثان كثيراً في حضرتها يتحدثان عن حياتهما في السجن الذي التهم معظم سنوات عمريهما.
أما الأقسى والأصعب هو معانقة كريم لشاهد قبر والديه؛ والدته تلك المقاتلة الصابرة التي انتزعها الموت قبل ثمانية أشهر فقط من حرية نجلها وكأن المعاناة كُتبت على هذه العائلة في الحياة الدنيا.
يعانق كريم شاهد القبر ويمر في ذاكرته لحظتها شريط من ذكريات كوّمتها أربعون عاما داخل غرف ضيقة وأقبية معتمة وممرات باردة ومحاكم تشبه كل شيء إلا ميزان العدل، يمر الشريط وفي كل جزء منه صورة والدته التي لم تفوّت زيارة واحدة له بل تحدت قرارات المنع والحرمان، حتى في مرضها وهي مسنة ثمانينية كانت تحرص على رؤية وجهه الذي لم تعلم أنها ستغادر الحياة قبل رؤيته حرا.
يخرج كريم إلى الحرية وهو يعلم أنه سيحتاج وقتا طويلا ليعتاد على سرير مريح بدلا من قطع الحديد التي تسمى مجاملة وتخفيفا على أنها سرير، وليعتاد على الاستيقاظ وحده دون إجبار على الوقوف في عدد صباحي ولا مسائي، وليعتاد على طعام صحي أو قابل للأكل دون تحديد مسبق ولا قيود، سيأكل الفاكهة التي يحب والخضروات التي يفضلها دون إجبار، سيحتاج وقتا طويلا ليعتاد على مكونات الحرية في سجن أكبر قليلا يسمى فلسطين.
ولكنه لم ينته من معركته بعد، فحتى بعد تحرره سيخوض معركة أخرى في تثبيت الهوية الفلسطينية، حيث هدد الاحتلال بسحب هويته ما يعني طرده من مسكنه ومنزله وأرضه في الأراضي المحتلة عام ١٩٤٨، ومهما كان الأمر بسيط الطرح في بدايته إلا أن كل شيء في فلسطين يمكن أن يحدث، فسيعتاد كريم على حياة جديدة عنوانها المحاربة لأجل الهوية بعد أن قاتل لأجل الحرية!
ما بين عامي ١٩٨٣ و٢٠٢٣ أعمار بأكملها وتفاصيل مليونية وسنوات لا يمكن اختزالها وتقليصها، هي أربعون عاما كاملة "من الجلدة للجلدة" كما تقال بالعامية الفلسطينية، هي حياة كاملة كُتب أن تكون كلها سجناً، هي وجع وألم وفراق وعذاب وقسوة وحزن ولا شيء فيها جميل سوى أمل الحرية الذي كان يرافقه دوماً.
يتحرر كريم بوجهه المجعد وشعره الأبيض وعمره الستيني من السجن الذي دخله شابا عشرينيا قوي البنية فتيّ الملامح.. تاركا خلفه أجسادا عطشى للحرية تأمل أن تذوقها قبل أن ينتهي بها المطاف هناك في عتمة سراديب القهر.