لم يكن الأسير المحرر مازن محمد التتر (53 عامًا) يتوقع أن ينتهي نزوحه من جحيم القصف في شمال غزة إلى جحيمٍ آخر في سجون الاحتلال. ففي الثامن من يناير/كانون الثاني 2024، وبينما كان نازحًا مع والده وعدد من أقاربه داخل المدرسة الماليزية التي كانت تؤوي مئات المدنيين، حاصرت قوات الاحتلال المدرسة وبدأت بإطلاق الرصاص العشوائي.
“لم يكن أحد يستطيع الخروج. صرخ الجنود فينا قائلين: سلّموا أنفسكم. ثم أجبرونا على خلع كل ملابسنا عدا الملابس الداخلية. تركونا في العراء، وملابسنا وأوراقنا وأموالنا مبعثرة على الأرض”.
التحقيق الميداني الأول
يقول التتر إن الجنود باشروا التحقيق فورًا داخل المدرسة نفسها، حيث جرى التحقيق الميداني الأول وسط إطلاق النار والتهديد والشتائم.
“عُذبنا في المكان نفسه الذي اعتقلونا فيه، قبل أن ينقلونا إلى الداخل. لم يكن أحد يعرف إلى أين سنذهب".
بعدها نُقلنا إلى منطقة تُعرف باسم “غلاف غزة”، حيث قضينا واحدًا وعشرين يومًا مكبلين اليدين ومعصوبين العينين، في خيم مليئة بالحصى والبرد.
“كنا نُلقى على الأرض، تُشغّل الموسيقى الصاخبة بأعلى صوت بينما نُضرب بالأيدي والأخشاب. هذه كانت وسيلتهم للتعذيب. لم نعرف الليل من النهار. كنت معصوب العينين ومكبل اليدين طوال خمسةٍ وعشرين يومًا متواصلة، وهناك أسرى استمروا على هذه الحالة أكثر من ثلاثة أشهر حتى أُصيبوا بالغضروف من انثناء أذرعهم الدائم”.
تعذيب واستجواب لا يتوقف
ينتقل التتر في شهادته إلى الحديث عن التحقيقات داخل سجن النقب بعد نقله من الحدود.
“كانوا يأخذونني من حين إلى آخر إلى التحقيق. يجلس أمامي محققان يسألان باستمرار عن الصواريخ والأسرى والمقاومة. كنت أقول لهم: أنا رجل كبير في العمر، لا علاقة لي بهذا. لكنهم يواصلون الضرب. ضربوني بخشبة على رأسي حتى سال الدم، ولو كانت الضربة أشد قليلًا لكانت قاتلة. رأيت بعيني أسرى يُنقلون إلى المستشفى من شدة التعذيب”.
ويضيف: “كل ستة أشهر كانوا يأخذوننا إلى ما يسمّى جلسة محكمة. يدخل القاضي والمترجم، ويبلغونني أن التهمة هي الانضمام إلى حركة غير شرعية (حماس). باعتبار أنني موظف في حكومة غزة وكنت أقول لهم أنها تمثل كل أبناء الشعب، لكنهم كانوا يغيّرون التهمة كل مرة. لم تكن هناك تهمة ثابتة”.
جوع مبرمج وأجساد منهكة
يصف التتر الطعام في السجن بأنه سلاح تعذيب بطيء، قائلاً:
“كان الأكل مقصودًا أن يُبقيك حيًا فقط. لا طاقة ولا صحة. دخلت السجن ووزني 75 كيلوغرامًا، وبعد شهور أصبح 52. كثير من الشباب كانوا يغمى عليهم من شدة الجوع لقد كان من أشد أنواع التعذيب، لأنك تموت ببطء”.
مرض جماعي وإهمال متعمد
لم يتوقف العذاب عند الجوع والضرب، بل امتد إلى المرض.
“في سجن النقب أصيب جميع الأسرى بمرض الجرب والدمامل الداخلية والخارجية. لم نستطع النوم ليلًا من شدة الحكة والألم. الطبيب، إن حضر، يقول فقط: اشرب ماء. لم يُقدَّم أي علاج حقيقي. وعندما اقتربت صفقة التبادل أعطونا بعض الحبوب والمراهم،
ويضيف بقلق: “أصيب كل من في السجن تقريبًا، حتى شككنا أن هناك شيئًا في الطعام أو الشراب، ربما ضمن حرب بيولوجية صامتة، لأن العدوى أصابتنا جميعًا في وقت واحد”.
“الاهتمام انتهى بعد السابع من أكتوبر”
يتذكر التتر الفرق بين اعتقاله الأول عام 1991 واعتقاله الأخير عام 2024، قائلاً:
“في التسعينيات، رغم كل شيء، كان هناك حد أدنى من الطعام والعلاج. أما بعد السابع من أكتوبر فقد انقلبت المعايير. لم يعد هناك علاج، ولا طعام كافٍ، ولا رحمة. كل شيء بات انتقامًا”.
أسرى منسيون خلف القضبان
يختم التتر شهادته بنبرة حزينة وهو يتحدث عن رفاقه الذين بقوا في الأسر:
“هناك مدنيون لا علاقة لهم بأي تنظيم، فيهم معاقون ومرضى لا يستطيعون خدمة أنفسهم. رأيت بعيني من يعاني ضمورًا في العقل ومن لا يقوى على الحركة. هؤلاء لا صوت لهم ،يبكون ،أمنيتهم الوحيدة أن يعودوا إلى عائلاتهم”.
تجسّد شهادة مازن التتر مأساة إنسانية صامتة عاشها آلاف الفلسطينيين الذين اعتُقلوا خلال الحرب الأخيرة على غزة، وتكشف عن حياة يومية قائمة على الإذلال، التجويع، والمرض، حيث يُعامل الإنسان كرقم فاقد للكرامة، في واقعٍ لا يترك للناجين سوى الذاكرة.