في عالم أطفالهم الذين تركوهم خلفهم قسراً، تصبح التفاصيل الصغيرة ذات أهمية كبرى، وتغدو النعم التي لم تخطر على بال أحد، جوائز ربانية لا متناهية في قلوب الصغار، مسك اليد وقطع الشارع يصبح نعمة، مسيرٌ للمسجد صوب صلاة الجمعة وقصةٌ ما أيضاً يعتبر نعمة، حضور حفلة شبابية لشابٍ ما مقبلٍ على الزواج أيضاً سيصبح نعمة، وأنفاس الحياة بذاتها في بيتٍ واحد دون كرسيٍ فارغ على المائدة ورزمٍ من الأسئلة التي لا تنتهي أيضاً يصبح نعمة.
صباح يوم الجمعة حين تجهزين طفلك ليذهب رفقة والده إلى الصلاة تذكري أنها نعمة، ففي ذات حيِّكم هناك طفلٌ آخر بسبع سنواتٍ من النضج المبكر يتمنى هذه التجهيزات، وهناك قلب أمٍ مكسورٍ قويٍ ذات الوقت يستمع لأمنية الصغير إذ يقول" لو أنني أذهب مثلهم مع أبي لصلاة الجمعة".
وديع إياد أبو زهرة(7 أعوام) من سكان مدينة نابلس، طفلٌ يفتقد والده الأسير في كل لحظة، ويتمنى لو أنه رافقه في كل تفاصيل حياته كما آباء الأطفال الذين يعرفهم، قبل يومين توجه بالسؤال لأمه حين عاد من دورة تحفيظ القرآن وقال لها ما معنى كلمة "ملاك"، لاحقاً فهمت منه أن أطفال الجيران الذين يذهبون معه إلى دورة التحفيظ جاء آباؤهم واصطحبوهم عصراً إلى عقد قران أحد الشبان، فأوضحت له بأنها مناسبة يجتمع فيها الرجال عند العريس ويقدمون له مباركتهم.
تفاصيلٌ كهذه آلمت قلب أمٍ وطفلٍ ذات الوقت، حين قال نجلها، بوجهٍ طفوليٍ حزين" أتمنى لو أذهب مع أبي كمثلهم، وأتمنى لو أذهب أيضاً للصلاة مع أبي كأبناء عمي وأبناء الجيران حين يصطحبهم آباؤهم".
بعيداً عن وديع، داخل وطنه، لابد يفكر الأسير إياد وديع أبو زهرة(42عاماً) من سكان مدينة نابلس، في اللحظات التي حرم فيها من قضاء وقته مع أطفاله الثلاثة، رفقة الأسئلة التي يوجهونها لأمهم، الأسير وديع تعرض لاعتقالاتٍ عدة وحرم طويلاً من عائلته، ففي بداية حياته اعتقل مدة أربع سنوات في سجون السلطة، وتعرض خلال انتفاضة الأقصى لإصابة عن طريق قناصة، وتم إزالة جزء من رئته اليسرى نتيجة ذلك.
الأسير أبو زهرة مكث مطارداً مطلوباً لدى الاحتلال عقب ذلك مدة عام، قبل أن يتمكن الاحتلال من اعتقاله عام 2003، ويصدر بحقه حكماً بالسجن مدة تسع سنوات، أمضاها كاملة ومن ثم نال حريته عام 2012.
غياب الأسير أبو زهرة أفقده حقه في استقبال ابنته البكر تالا(16عاماً) حيث رزق بها بعد اعتقاله، ولم تتمكن من عيش حياة طبيعية رفقته، كمثل شقيقها وديع(7أعوام) وتولين(4أعوام) واللذان رزق بهما بعد حريته من اعتقاله الأول، تالا وأشقاؤها عاشوا مع والدهم في فضاء الحرية قرابة الثلاث سنوات ونصف فقط، قبل أن يعتقله الاحتلال مجدداً عام 2015، ويوجه له تهمة المشاركة في عملية ايتمار عام 2015، والتي أسفرت عن قتل مستوطن وزوجته.
في ذلك الوقت كان الاحتلال يهدد بهدم منزل عائلة أبو زهرة، قبل أن يرفع قرار الهدم لاحقاً، ويصدر بحق الأسير إياد أبو زهرة حكماً بالسجن مدة سبع سنوات، لقاء تهمة المشاركة في العملية، وليقضي سنوات اعتقاله حالياً في سجن النقب الصحراوي.
لم يكن الوضع هيناً على زوجة الأسير إياد أبو زهرة، أم وديع لكنها تمكنت من تسيير حياة أطفالها في دراستهم وتربيتهم واحتياجاتهم كما لو كان أباهم موجوداً، لكنها تؤكد أنهم كلما كبروا تزداد مسؤولياتها اتجاههم.
ابنة الأسير أبو زهرة، تالا سيصبح عمرها عما قريب 16 عاماً، وهي لم تعش مع والدها سوى ثلاث سنوات ونصف، ولا تستطيع والدتها أن تتخيل أنها ستكون السنة القادمة منشغلة بامتحانات الثانوية العامة، ولن يكون والدها بجانبها، تقول" كنت حاملاً فيها حين اعتقل اعتقاله الأول، أهم مراحل حياتها ودراستها لم يكن حاضراً فيها، وكذلك الأمر بالنسبة لشقيقها وديع الذي أصبح بحاجةٍ لأبيه أكثر من أي وقتٍ آخر".