كل ما ينجح الأسير في إخراجه من مدافن الأحياء، يعتبر بمثابة روح حية لذويه، روحٌ تنتظره حتى ينال هو الآخر حريته، أحياناً مجرد إيصال أسير محرر رسالة شفهية لعائلته بأنه بخير يعتبر عيداً، الرسائل التي تخرج مع المحامين من هناك تعتبر خزينة تخبأها قلوب ذويهم في صناديق مخصصة لأعمالهم الفنية والثقافية، تلك التي نجحت في أن تنال الحرية قبلهم، لكلماتهم وبطريقةٍ ما، لجزءٍ من قلوبهم، فكيف هي إن كانت كلماتٍ خاصة، من قلبٍ مغيبٍ عن الحياة في أكبال حكمٍ إداري، لقلبٍ يترقب خيطاً من اليقين الغليظ ليتمسك به حتى يأتي الفرج بانفلات عقدته.
لا أكثر قهراً من دفترٍ لا نعرف شكله تدون فيه خطيبة أسيٍر موعد الحياة المعلقة لخطيبها في مدافن الأحياء، لا أكثر مقتاً من صفحاتٍ تمتلأ بتفاصيل المحاكم، تواريخها، مجرياتها، وربما تفاصيل كرسي حديدي بارد، أو احمرار في وجه الأسير، أو سرحان، ولا أصعب من حفظ تراكمات سنوية متكررة لاعتقالات حالت في كل مرة بين فرحتين وحياتين كان يجب أن تصبحا حياةً واحدة، لولا الأسر والاقتحام والأكبال والحكم الإداري اللامنتهي.
بقلبٍ مطمئن تتحدث الخطيبة صاحبة القلب الطيب، آية صباح مع مراسل مكتب إعلام الأسرى في نابلس؛ للحديث حول تفاصيل أنشودة قمري السجين، وتفاصيل ربما يعرف البعض سطحياتها فقط، دون الإلمام بأعماق القصة منذ بدايتها.
مطلع القصيدة
الحكاية بدأت من العام 2011، فقد اعتقل الاحتلال الأسير أحمد محمد شحادة(24عاماً)من سكان قرية عوريف، قضاء مدينة نابلس، وقضى أسيراً مدة أربع سنوات، لينال حريته عام 2015، وتبدأ تفاصيل حكاية جديدة في حياته، وانتظار فرد جديد لغياباته إلى جانب عائلته.
تروي خطيبته وملهمة كلماته، آية صباح تفاصيل الحكاية، تقول" عقب الإفراج عنه عام 2015 بشهرين، تقدم لخطبتي، أتممنا خمسة أشهر و18 يوماً تحديداً في فترة الخطوبة قبل أن يعود الاحتلال ويعتقله من جديد في شهر أكتوبر من العام 2015، وليصدر بحقه حكم 30 شهراً، وغرامة مالية بقيمة 30 ألف شيقل".
انتظرت صباح 30 شهراً حتى العام 2018، لينال خطيبها حريته، ولا نملك أن نصف حجم فرحة آية وعائلتها وعائلة الأسير شحادة، فالفرحة ستكون فرحتين، الحرية والزفاف المؤجل، تقول صباح" أعاد الاحتلال اعتقاله بداية شهر نيسان لذات العام، 2018، قبل أيام من موعد الزفاف، كنا قد تجهزنا لفرحة، كل أمور العرس جاهزة، ليعتقل الاحتلال أحمد، ويصدر بحقه هذه المرة الأمر الإداري".
تحفظ آية صباح تفاصيل الألم والمحاكم والانتظار جيداً، قلبها مؤمن بقضاء الله، لكن لانتظار يقتل الجميع، يقويها هي ويزيدها فخراً بخطيبها، لكن يقتل حقيهما في الفرح، ربما كان يجب أن تحفظ آية أموراً أخرى، كموعد عودة أحمد من عمله مثلاً، أو مواعيد حياته المفرحة، بدلاً من حفظ عدد تمديداته الإدارية والتي أصبحت ثلاث، بأربعة أشهر لكل تمديد.
أربع سنوات خطبة بين السجون والمحاكم، حرمت فيها آية صباح من حقها في زيارة خطيبها مدة سنتين ونصف، إلا من قاعات المحاكم من مسافات نعرف كلنا وصفها، ففي مجدو وجلبوع والنقب تنقضي فترة خطبة آية وأحمد.
تفاصيل الانتظار الثقيلة
96 ورقة تحفظ آية صباح عددها جيداً في دفتر ممتلئ بالتواريخ، عدد الاتصالات معه، عدد أيام أسره، عدد المحاكم، عدد الزيارات الشحيحة، تقول" والله أعتبره جزءاً من حياتي، بطريقةٍ ما، أراه ويراني"، وتضيف" فقط والدة أحمد تستطيع زيارته، البقية من عائلته مرفوضون أمنياً، أنا حصلت على رفض أمني، زرته مرتين فقط في اعتقاله الإداري".
الأسير شحادة ينحدر من عائلة تفتقد أيضاً فرداً آخر في الأسر، عبد الرحمن، معتقل للمرة الثانية، في اعتقاله الأول قضى تسعة أشهر أسيراً، وفي اعتقاله الحالي الثاني لا يزال موقوفاً، ولأحمد إضافة لعبد الرحمن أربع أخوة كذلك وأخت واحدة، كلهم ينتظرون فرحة حريته.
تصف آية صباح انتظارها لخطيبها بالقول" الشعور صعبٌ لا يوصف، لكنه مزيج من الخوف، الحب، الاختلاف، معروفٌ بأن فترة الخطبة للتعارف والانسجام بين طرفين، لكن مع الأسير يختلف الأمر، اتصالات من الصليب، وزارة شؤون الأسرى، الإذاعات، مراسلات تصل بعد أشهر عجاف، بريد مؤجل، مفاجآت، وأي اتصال من أي شخص غريب لطمأنتنا هدية عظيمة، التوتر، الخوف في أيام المحاكم، شخصياً ذهبت ل27 محكمة لأحمد، لا أستطيع وصف شعوري ولا في أي واحدة منها، الأمر صعب جداً جداً، وكلمات لا تخرج..".
الأنشودة المفاجأة
يبدو قلب آية صباح فرحاً حين تقول" كانت أنشودة قمري السجين مفاجأة، أحمد يكتب شعر وقصائد لكن في الأسر من الصعب أن تنال حريتها".
أنشودة قمري السجين من أداء نجوم غرباء للفن الإسلامي، كلمات الأسير أحمد شحادة، ألحان بلال الأحمد، هي المفاجأة التي أدخلت الفرحة في سنوات انتظار آية ومثلها الكثيرات المجهولات، كجيوش خلف أسراهن.
تقول خطيبة الأسير شحادة، صاحب كلمات أنشودة قمري السجين" نحن نستمع لها بسهولة، لكن الوقت الذي استغرقهم العمل عليها كبير، لا نعرف تفاصيله، خاصة في ظل محاكم أحمد الإدارية، لصعوبة التواصل، لقد أبكتني الأنشودة، عشنا كل حرفٍ فيه، ورافقت صوراً شخصية من فترات حريتنا القصيرة معاً".
بالنسبة لآية صباح وفي فترة ما ربما ستنجح هذه الأنشودة في تخفيف وجع أسوء الأخبار والمواقف التي مرت بسبب ظروفها وظروف خطبتها والمحاكم أولها، والزيارات آخرها، والاعتقال الإداري خبره، والصبر الذي لا يعلم تفاصيل ألمه سواها، حتى يتحقق يقينها بالفرج القريب.