كان الجو شتاءً بارداً وقرصات كانون وشباط تغرس نفسها في أجساد المزارعين الذين يضطرون للخروج من منازلهم في ساعات الصباح الباكر الأشد برداً كي يغنوا موسمهم الزراعي في قريةٍ خضراء كبرقين، تلك القرية الوادعة التي تتربع غرب جنين وتشهد على أنفاس الفدائيين.
عمار شلبي المزارع الأربعيني الذي كان يمارس عمله المعتاد في مزارعه وبساتينه في القرية لم يكن يتخيل أن حياته ستتغير كلياً؛ لكنه لم يأبه وقتها لذلك بل طغى نفَسه المقاوم الثائر على أي تفكير آخر.
كانت كل أذرع الاحتلال الأمنية والعسكرية في حالة تخبط واضح مسخرة نفسها للبحث عن المطارد الأول الشاب الذي أرهق عقلية الاحتلال أحمد نصر جرار، وفي سبيل ذلك اعتقل العشرات من أبناء البلدة وأخضعهم لتحقيقات مكثفة كي يدلوه على مكان جرار أو أي معلومة تقود إلى ذلك.
تقول عائلة شلبي لـ مكتب إعلام الأسرى إن جنود الاحتلال داهموا القرية عدة مرات في أواخر كانون الثاني وبدايات شباط بحثا عن جرار؛ وفي إحدى المرات هاجموا بسطة لبيع الخضار كان عمار متواجدا فيها برفقة عمه، فاعتدوا عليه واعتقلوه وعادوا بعد أيام لاعتقال عمه.
ومما تمكن الأسير عمار من إخراجه من حديث وذكريات عن تلك الأيام لعائلته قال:" تجمعوا علي بالعشرات من جنود ووحدات خاصة وبدأوا يسألونني عن مكان أحمد، قلت لهم لا أعرف فأفسحوا جميعا المجال أمام طبيب من جلدتهم قام بعملية تعذيب لم أعهدها ولم أسمع عنها، كان يقوم بإرجاع فقرات عمودي الفقري عن بعضها ويعيدها إلى مكانها في عملية مؤلمة لم أشهد قبلها ما هو أكثر إيلاماً وكنت تعرضت لخطر الموت أو الشلل الدائم".
بقي الحال هكذا ضمن ما يعرف بالتحقيق الميداني لوقت لم يدركه الأسير وهو في خضم أوجاعه؛ ويشكل هذا أقسى أنواع التحقيق حيث لا يتم نقل الأسير رسميا إلى السجون كي لا تتحمل إدارة السجن ما قد يحدث معه من مضاعفات قد تؤدي إلى الاستشهاد.
وتضيف العائلة:" في كل زيارة لعمار لو سألناه مم تشكو يشير إلى ظهره، فرغم أنه قوي البنية وذو صحة ممتازة إلا أن التحقيق الميداني أثر عليه كثيراً وأدى إلى آلام مبرحة دائمة لديه".
بعد شهرين من الاعتقال والتحقيق تمكن شقيقه عمر من زيارته ورؤيته للمرة الأولى؛ لم يصدق ما رآه حين وجد جسدا هزيلاً متعباً يحكي الكثير عما مر به دون أن ينطق بحرف، خسر الكثير من وزنه ولكنه كان الأوفر حظا بين مجموعة الشبان الذين تم اعتقالهم على خلفية القضية ذاتها وهي إيواء جرار وتقديم الدعم اللوجستي له، فجميعهم تم نقلهم للمستشفيات مقيدين وهم يعانون من آلام غير محتملة جراء التعذيب.
الأسير عمار يقبع الآن في سجن مجدو ويتعرض لمماطلات في جلسات المحاكم أسوة بغيره ممن تم اعتقالهم من عائلته أو عائلات أخرى؛ ولكن العائلة تعلم جيدا أن التهمة المقدمة إليه قد تحمل سنوات في طياتها.
رزق الأسير الذي اعتقل في الخامس من شباط الماضي بطفل جديد أسماه "أحمد" تيمنا بالشهيد أحمد نصر جرار والذي ما زالت روحه تلهم أبناء بلدته ومدينته ووطنه بل العالم أجمع.