يستحق أسيرٌ ب21 عاماً أمضاها دفين السجون أن يُحفظ اسمه، أن يكون معروفاً لدى الآخرين، بقدر معرفتهم بأبطال مسلسلاتهم المفضلة على الأقل، فالتدقيق ب21 عاماً يقضيها متنقلاً بين السجون، لا يجب أن يكون عادياً، أن يتمنى لو يرى معالم الحياة خارج أسره، ويأكل ما يشاء دون أن تصبح فاكهة البطيخ حُلماً، ويلبس ما يشاء دون أن يصبح اللون البني والألوان القاتمة لون شتائه وصيفه وخريفه وربيعه، دون أن يتمنى استنشاق رائحة التراب عند أول هطولٍ للأمطار في بلدته، ودون أن يصبح الأطفال بالنسبة له كائناً يتلهف لرؤيتهم واشتمام رائحتهم الطاهرة.
لم يكن الأسير إبراهيم محمد أحمد حلبية(42عاماً)من سكان بلدة أبو ديس، شرق القدس، يملك من الأمنيات الكثير في بادئ حياته، قبل أن تنقضي طفولته، ربما فقط يحلم بوطنٍ اعتيادي لا شهداء فيه بين كل خبرٍ وخبر، ولا رائحة حرب، حتى أعطاه وطنه جزءاً من الفرص المتاحة ليضحي في سبيل حريته وحرية أحلامه حين تكون، فاعتقل حين كان لا يزال بصدد أن يصبح طالباً في الثانوية العامة، فكان اعتقاله الأول وتجربته المبكرة لمفاهيم السجون والانقطاع عن العائلة.
ألم الاعتقال الأول
اعتقل الاحتلال الأسير حلبية عام 1995، وأصدر بحقه حكماً يقضي بالسجن مدة سبع سنوات، ولم تكن هذه السنوات مجرد عدد، ففيها تمكن الأسير أن ينهي مرحلة اثانوية العامة بنجاح، وأن يحاول بكل ما أوتي من قوة أن يتسابق مع الحياة.
تقول شقيقته في حديثٍ لمكتب إعلام الأسرى"حمل هذا الاعتقال ألماً لأخي، وحقاً مسلوباً، أتذكر أن والدي ذهب ليزوره قبل العيد بيوم، لا أعرف عما تحدثا، لكنني أتذكر أن أخي صُعق حين وصله خبر وفاة أبي، وهو الذي لم يكن يعاني أي مرض، وذلك عقب الزيارة بأيامٍ قليلة".
خبر وفاة والد الأسير حلبية لم يكن سهل الوصول إليه في سجنه توضح شقيقته" في ذلك الوقت كانت الصحف هي الوسيلة لإيصال أخبارنا، قرأ الخبر في سجن مجدو لا بد في صحيفةٍ ما، وكان كالصاعقة، لم يصله الخبر كما يجب، وبقيت حسرة وداع والده في قلبه وذهنه حتى اليوم".
خرج الأسير حلبية من اعتقاله الأول، بعد سبع سنواتٍ عجاف، لا تزال شقيقته تتذكر تقول" أمضى بيننا حراً لاحقاً سنتين ونصف و14 يوماً، أحفظها باليوم، وبعد هذه المدة لم نلتق معه على مائدةٍ واحدة، ولا في فرحٍ مشترك".
ألم الاعتقال الثاني
بتاريخ 14/7/2004، اعتقل الاحتلال الأسير حلبية مجدداً، وبدأت بالنسبة له جولة أخرى من مقاساة الحرمان والانقطاع عن العائلة، كان قد كوّن لنفسه حياةً للتو، كان سيصبح عموداً في أسرةٍ ما، ويصبح أباً لاحقاً، لكن الأسر حرمه أيضاً هذا الحق".
تروي شقيقته لمكتب إعلام الأسرى"كان خبر حكمه هذه المرة لا منطقي، صدمنا جميعاً، حكمٌ بالسجن المؤبد مدى الحياة، حكمٌ أكلَ نصف عمره، ماذا يعني أنه قضى 21 سنة من حياته في الأسر، ومثلها خارجه؟ ماذا يعني أنه قضى نصف حياته طريح مدافن الأحياء".
لم يكن الحكم المؤبد هو الألم الوحيد الذي أصاب عائلة الأسير حلبية وأصابه، بل هي سنتان لاحقاً قضتها العائلة بالمطالبة بعلاج نجلها، بعد أن تم اكتشاف وجود أكياس على كبده يجب استئصالها، حتى العام 2013، وبعد إهمالٍ طبيٍ استمر قرابة العامين، تم إجراء العملية المستعجلة كما كان يجب أن تكون للأسير حلبية، وعلى إثرها استئصل له أطباء الاحتلال جزءاً من كبده".
محطة الإهمال الطبي للأسير حلبية، لم تكن الأولى في قوافل ألمه داخل الأسر، فقد توفيت والدته في اعتقاله الثاني، توفيت والحسرة تلازم قلبها أن لم تستطع أن تزوره لأربع سنوات، بسبب حالتها الصحية وأمراضها المزمنة، واكتوى قلبه بسلبه حق وداعها، لم تزره في اعتقاله الثاني سوى ثلاث مرات، رأته خلف زجاج الزيارات في الرملة، وفي السبع، لكنها لم تشبع من رائحته قبل أن تودع الحياة.
اليوم تبقى للأسير حلبية أشقاؤه الستة وشقيقاته الثلاثة، يحرم أشقاؤه من حق الزيارة بفعل المنع الأمني، في حين تزوره شقيقاته على فترات متبعادة، تقول شقيقته" في آخر مرة زرناه في شهر آذار الماضي، ولسببٍ نجهله أبلغنا الصليب الأحمر بأنه ربما لن يتم إعطائنا تصاريح لزيارته حتى شهر آب المقبل، وهي 45 دقيقة لا تصلح لأن يقال فيها شيءٌ سوى السلام، والأخبار العادية، لكنها متنفسٌ لنا لنراه بصحةٍ جيدة، وله ليعلم أن هناك من لا يزال بانتظاره".
شهر رمضان بالنسبة لعائلة الأسير حلبية يحمل ألماً مضاعفاً الموائد تفتقد الأخ العطوف صاحب القلب الطيب كما يصفونه، من يحبه الجميع، ويعشقه الأطفال ويشتاقون لدعابات شبابه، لا أحد يعلم مدى الغصة التي يشعر بها أشقاؤه على موائد الإفطار، وحين تلوح أفراحٌ قريبةٍ لهم، ويسمع صوتٌ من بعيدٍ باسمه يقدم لهم التهاني بفرحهم، فتصاب أجسادهم بالقشعريرة.
تختم شقيقة الأسير حلبية حديثها بالقول"عمره اليوم 42 سنة، وكل ما يتمناه حين أسأله هو أن يخرج لينال حصته من حياةٍ طبيعيةٍ" الأسير حلبية، آمن بأن وطنه يستحق التضحية، لكن عمره تآكل في السجون، وعائلته تخشى دائماً على صحته، يتمنون للأسرى بمقدار ما يتمنون له أن يعودوا لأحضان بيوتهم وعائلاتهم، وأن لا يصابوا بحسرة ألمه، وفقده لوالديه داخل الأسر، وفقده لحقه في أن يقول له طفلٌ ذات يوم : أبي.