13 شهراً بأيامها ولياليها وساعتها، مرت بطيئةً ثقيلةً على بيتٍ في بلدة بيتا الواقعة إلى الجنوب من مدينة نابلس، في بيت عائلةٍ صغيرة هادئة الطباع محبة للوطن، كل غايتها أن تعيش الأمن في وطن لم يزره الأمن يوماً، رافقتها عيون الناس في أول أربعة أشهر من ابتلائهم الرباني، ثم تغاضى الشعب عن ما تبقى من الأيام التي تراكمت سريعةً دون أن تملك العائلة إلا الابتهال إلى الله، وانتظار حكم الجاني عليها وعلى مستقبل ابنٍ غضٍ لها.
عميقاً لم يكن غريباً أن يخرج من ذلك البيت مقاومٌ صغير السن كبير الفعل، فله والدةٌ من الأمهات اللواتي قال فيهن الشاعر المصري هشام الجخ، نساءٌ من غضب، يرين أبناؤهن ذهب، كمثلهن كانت الأم جودة أبو صادق، والدة الأسير الشبل صادق أبو مازن (20عاماً) من سكان بلدة بيتا، قضاء مدينة نابلس.
تملك الأم الفلسطينية قلباً يتسع للكثير من الألم مجبرة، لأن بيئتها صقلتها هكذا، لكن أم الأسير صادق أبو مازن، تنفرد بقلبٍ يحتمل أطناناً من الألم رفقة مشاهد تخيلية رأتها بعينها تمارس اتجاهها، ولابد أنها آمنت أنها تمارس اتجاه نجلها بأضعافٍ مضاعفة، لأن الأسر أجبرها على رؤية المشاهد حية مارسها السجان بحقها، انتقاماً من نجلها ومن شجاعته، حين أصبحت ذات مرة أسيرةً في سجون الاحتلال.
بتاريخ 9/2/2017، تحولت حياة أم صادق من حياة هادئة، إلى سلسلة من تنقلات المحكمة والاستماع لقضاءٍ مجحف، وأحكامٍ خيالية، فقط في صباحٍ واحد تغيرت حياتها وحياة ابنها التي قالت"استغربه الجميع، فابني هادئ الطباع لا يمكن أن يتخيل أحد يعرفه ويعرف شخصيته الهادئة، أنه قام بما قام به".
تقول أم صادق" كان ابني طيلة حياته هادئاً مؤدباً خلوقاً، لم يلتحق يوماً بمظاهرة ولم يرم حجراً، كانت طموحاته لا تتجاوز أن يتخرج من دراسته، ويرضي والده، ويقدم فائدة لمجتمعه، لذلك حين سمعنا بخبر تنفيذه عملية في الداخل الفلسطيني، دهشنا".
تتلقى أم صادق أحياناً كثيرة اللوم على زرعها لحب البلاد في قلب طفلها الكبير الصغير، وتشجيعها له على وطنيته، حتى بكتابتها الحماسية عنه وعن بلاده الضائعة على منصات التواصل الاجتماعي، لكنها لا تلقي بالاً لكل هذا، وهي التي شاهدت عنجهية الاحتلال بأم عينها ذات مرة أغلقت عليها قضبان الأسر فيها، وتركها الجميع.
تستغرب أم صادق قول بعض النساء لها بأنهن يخشين أحياناً أن يضعن إعجاباً لما تكتب فقد تكون مراقبة، وترى أن من يتق الله يجعل له مخرجاً من هذه الفئة.
20 محكمة ليست بالرقم القليل لشابٍ عشريني، يقيد في كل مرة داخل البوسطة، في حر البلاد وشتائها، ثم يجلس على خشبة مسرحية القضاء الاحتلالي، لتؤجل محاكمته في كل مرة، ويعود لسفر البوسطة وألمها القاتل.
20 محكمة أيضاً لعائلته ولوجوههم المصدومة من هول الأحكام التي يتم الترافع عنها، وطلب النيابة، والأرقام التي ستؤكل من عمر ابنهم لأنه لم يسكت كما سكت كثيرون، وأراد أن يكون رقماً صعباً في وطنه.
منذ اعتقاله زارته والدته مرتان، وتم إرجاعها في مرة واحدة، وإرجاع والده كذلك في مرة أخرى، تقول أم صادق"في الزيارة القصيرة نتحدث عن توقعات حكمه، عن الناس المحيطين بنا ومعاملتهم لنا،عن إسناد الأقارب الكبير، عن وضع العائلة التي تم سحب تصريح عمل رب الأسرة فيها، وفقدت استقرارها".
ثم يؤكد صادق لأمه في الزيارة على أن لديه أملاً كبيراً بتبييض السجون، ينتظر كغيره من الأسرى كلمة أو وعداً قريباً، ثم يقول لها بأن أكبر مخاوفه الآن باتت أن يصدر بحقه حكم انتقامي يفوق ما يتخيل هو.
صادق أبو مازن خرج من عائلة صغيرة مكونة من أب يحصد اللقيمات لأبنائه ومن أمٍ تهتم بتربيتهم على القيم والأخلاق، له شقيقٌ صغير وثلاثة أخوات، عانوا الأمرين حين تشت عائلتهم ذات مرة، بعد تنفيذ أخيهم للعملية واعتقال الوالد والوالدة، فأم صادق قضت أربعة أشهر في السجن، وقضى أبو صادق مدة قصيرة كذلك، وخلال هذه الفترة كان على أنائهم أن يتنقلوا من بيتٍ لآخر، ويواجهو مصيراً مجولاً وأفكاراً تفوق حد احتمال طفولتهم.
2017 حملت ذكريات قاسية لعائلة الأسير أبو مازن، تروي والدته قصة تلك الأيام فتقول"كانت سنة قاسية، اعتقال ابني أولاً ثم زوجي، ثم اعتقالي، ثم حريتنا، ثم تنقلنا بين المحاكم والزيارات الشحيحة".
حين اعتقلت أم صدق لم تتخيل أن يمر عليها يوم واحد داخل الأسر، توقعت أن يسألها المحققون بضعة أسئلة ثم يتركونها وشأنها، لكنهم اتهموا أمومتها، وجعلوها جربمة ، حتى كانت أصعب اللحظات تطاول المحققين عليها وعلى ابنها بالألفاظ النابية، وصولاً لسياسات الحبس الانفرادي والتفتيش العاري، حتى وصلت لمحطة السجن.
تروي أم صادق لحظات دخولها الأولى للسجن فتول"كان عالماً آخر، لم أتخيل يوماً أن أرى أسيرات بهذا السن في السجون، أطفال صغار، أتذكر قصة حلوة حمامرة الثورية الوطنية، أتذكر قصص من تركت خلفها ابناً، وزوجاً، أتذكرني وأنا أنتظر زوال الأشهر لأعود لبيتي وعائلتي".
اليوم لا زالت أم صادق تنتظر، تنتظر محكمة جديدة لابنها يوم الخميس القادم، بتاريخ 22/2/2018، محكمة لا تعلم العائلة أتكون الأخيرة أم تتبعها قصص تنقلات أخرى.
سيضطر الأسير العشريني صادق أن يجهز نفسه مرة أخرى لكروب بوسطة، رفقة أسرى جنائيين سينهالون عليه بالشتائم، سيحاول أن يتغاضى عن حديثهم، أن يتناسى أين هو أملاً في أن تكون هذه المرة الأخيرة، سيرى وجه أمه إن قدر لها أن تحضر المحكمة من بعيد تترقب، وكغيره من الأسرى سيحتفظ بالكثير في قلبه ويبتسم لها، وينتظر الحكم الأخير.