تتناثر حكايات الأسرى بين كل زاوية وقسم وغرفة وزنزانة و"بُرش"، يختزلون أوجاعهم بين جدران وأسوار كبتت أحلامهم وبات عالمها محصوراً في أمتار ضيقة، منهم من قضى أكثر من نصف عمره هناك ومنهم من انتقل بين مراحل الفتوة والشباب والشيخوخة، وبين هذا وذاك لا يختلف السجن بل ربما تزيد قسوته وتشتد حلكته.
المرضى
في مقبرة سجن الرملة تنازع أرواحٌ كبلتها القيود والأمراض، 11 أسيرا يقبعون بشكل دائم هناك منهم معتقلون في ريعان شبابهم أقعدتهم الرصاصات وآخرون نهشت أجسادهم الأمراض، بينما تحلق الأمنيات فوق رؤوسهم عالياً بحرية قريبة.
وتبرز حكاية الأسير منصور موقدة (48 عاماً) من بلدة الزاوية قرب سلفيت وتطفو فوق كل الحكاسات؛ فهو فقد نتيجة الإصابة حين اعتقل عام 2002؛ معدته وأمعاءه وتحولت إلى قطع بلاستيكية يستخدمها في الهضم، ويمكث في سجن الرملة يهاجمه المرض مقعداً لا يقوى على الحركة ويحلم بيوم حرية واحد يُنسيه آلامه وظلم الإهمال الطبي في ظل حكمه الخيالي بالسجن لمدة 30 عاما.
وفي يوم من الأيام قام "أبو الرعد" بتوزيع الحلوى على إخوانه الأسرى، فسألوه ما هي المناسبة ليجيب: "ابنتي أنجبت حفيدي الأول الذي لم أره حتى الآن، ابنتي كانت في بطن أمها حين اعتقلت أنا ولم أعش معها ولا دقيقة والآن تكبر وتتزوج وتنجب حفيدي وأنا في الأسر" .. فسادت في الغرفة حالة من الحزن الممزوجة بفرح المولود .
وتقول زوجته لـ مكتب إعلام الأسرى:" حين اعتقل أبو الرعد كان مطاردا قبلها وكنا نتوقع أن يتم اعتقاله ولكن لم نتوقع هذا الحكم الخيالي، يزورنا طيفه في بيتنا ألف مرة خلال اليوم وأمضيت كل هذه السنوات وأنا أربي الأطفال على عودة والدهم يوما ما، أزوره في مقبرة الرملة وأعلم أن وضعه الصحي سيء للغاية ولكننا نتشبث بخيوط الأمل ونقول إن الحرية ستنسينا هذا الوجع والمرض وربما تتحسن حالته خارج الأسر".
وبينهم هناك الأسير يوسف النواجعة (48 عاما) من بلدة يطا جنوب الخليل الذي يعاني من 11 مرضاً ومحكوم بالسجن المؤبد ست مرات، حيث يعاني من شلل نصفي وصرع وفقدان نسبي في الذاكرة وآلام في الرأس والمعدة ومشاكل في الكبد والنظر والتنفس والرئتين والقلب منذ اعتقاله قبل خمسة أعوام.
وتكثر قصص الأسرى المرضى في مقبرة الرملة بين أمراض السرطان والشلل والكلى والكبد والإصابة بالرصاص والتي ازدادت خلال انتفاضة القدس .
المؤبدات
وفي ضيق الزنازين والغرف تُحشر أجساد الأسرى الذين يشكّلون العمود الفقري للحركة الأسيرة، 506 أسرى يذوقون ظلم الأحكام المؤبدة الخيالية التي تصل في بعض الأحيان إلى آلاف السنين.
ويروي الأسير عمار الزبن (42 عاما) من مدينة جنين لإخوانه الأسرى مدى شوقه لعائلته وهو المحكوم بالسجن المؤبد 28 مرة، حيث كان اعتقل في عام 1998 على معبر الكرامة الحدودي بين فلسطين والأردن.
وكغيره من الأسرى ذوي الأحكام العالية المؤبدة تربى أطفاله دون رؤيته، حيث كانت طفلتاه في بداية عمريهما وقت اعتقاله والآن يحنّ إليهما ولمداعبة ضفائرهما وقد كبرتا وأصبحتا فتاتين، ولكن الأسير علم كيف يقهر السجان بمشروع تهريب النطف الذي افتتحه وتمكن من خلاله إنجاب طفليه مهند وصلاح الدين، ليسير عشرات الأسرى على هذا الدرب قاهرين السجان ومؤكدين إرادة الحياة.
وتتداخل قصص الأسرى المؤبدات في كل قسم وغرفة وخيمة، فأحلامهم تناطح السحاب ويبقى أملهم معلقاً بالله أولا ثم بالمقاومة المشرفة التي تعرف كيف تجمع شمل الأسرى بعائلاتهم.
الإداريون
أما القهر فيتمثل في ملف الاعتقال الإداري، ذاك الذي يمكث صاحبه رهن القيد لسنوات وهو يحلم بالحرية كل يوم وليلة، ولكنه يختلف عن بقية الأسرى بأنه لا يحمل أي ملف يدينه في المحاكم الصهيونية ويبقى حبيس كلمة الملف السري، ويستعد في نهاية تمديد الاعتقال لتحقيق حلمه ولكنه يتفاجأ بتمديد جديد يبقيه أشهرا أطول في السجون.
ويقبع في سجون الاحتلال أكثر من 450 أسيرا إداريا تزداد أعدادهم في كل شهر، وتضع المخابرات الصهيونية قوائم تسميها بالاحترازية تحمل أسماء مئات الفلسطينيين الذين تقوم باعتقالهم إدارياً بين فترة وأخرى حتى لو لم توجه لهم أي تهم.
ومن الأمثلة الصارخة على ملف الاعتقال الإداري النائب في المجلس التشريعي محمد جمال النتشة (59عاما) من مدينة الخليل والذي يصارع الاعتقالات ولا يكاد يتسلل إليه نور الحرية بينها إلا بضعة أشهر، حيث اعتقل آخر مرة في شهر شباط الماضي بعد الإفراج عنه بأشهر قليلة.
وبدأت الاعتقالات بحق الشيخ النتشة منذ عام 1988 على يد الاحتلال والسلطة ليمضي في زنازينها أكثر من 20 عاما مجتمعة تسعة منها في الاعتقال الإداري البغيض، كما دفع ثمن مقعده في المجلس التشريعي الفلسطيني عن كتلة حماس البرلمانية بالسجن المتواصل لأربعة أعوام، وبعد الإفراج عنه عام 2010 أعيد اعتقاله عدة مرات ضمن الاعتقال الإداري وبقي في دوامته إلى هذه اللحظة.
الأسيرات والأشبال
وعند أبواب السجون تُسكت أصوات المراكز الحقوقية وتُكسر نظريات العالم أجمع بحماية المرأة والطفل؛ خلف أسوار الزنازين وفي بردها القارس ومعاملة السجان الكاسرة لأسيرات وأشبال الأصل أن ينعموا بدفء عائلاتهم.
61 أسيرة في سجون الاحتلال بينهم أمهات وقاصرات؛ ارتفعت أعدادهن خلال انتفاضة القدس لتشمل فتيات في مقتبل العمر لم ترحمهن محاكم الاحتلال من أحكامها الجائرة، فالأسيرة الجريحة شروق دويات حكمت بالسجن لـ16 عاما، والأسيرة الجريحة إسراء جعابيص حكمت بالسجن لـ 11 عاما والأسيرة الجريحة مرح باكير حكمت بالسجن لـ 8 سنوات ونصف والأسيرة الطفلة ملك سليمان حكمت بالسجن لعشرة أعوام والأسيرة الطفلة الجريحة نورهان عواد حكمت بالسجن لـ 13 عاما ونصف، وغيرهن الكثير من قصص السجن القاسية.
وتقول والدة الأسيرة نورهان عواد لـ"مكتب إعلام الأسرى" إنها تشعر في كل يوم ودقيقة بالقلق الشديد على ابنتها في ظل ظروف الأسر الموحشة، مؤكدة انها حين تزورها تراها مفعمة بالأمل والحياة ولكن قلب الأم يخبرها بغير ذلك.
وتوضح بأن حلم الحرية بات أملاً تعيش العائلة كلها انتظارا لتحقيقه، بينما كانت ابنتها الطفلة أصيبت بعدة رصاصات حين اعتقلت قبل عامين إحداها في الظهر وعانت كثيرا من ألمها ولكن السجان لم يوفر لها الرعاية الطبية الكاملة وأبقاها في الزنازين تصرخ وتتلوى من أوجاعها.
أما الأسرى الأطفال فيبلغ عددهم 250 في السجون يزداد كل يوم تقريبا بسبب حملات الاعتقال المتكررة خاصة بحق الأطفال المقدسيين، كما يتعرضون لأحكام خيالية كغيرهم من الأسرى مثل الأسير أحمد مناصرة الذي يقضي حكما بالسجن لأكثر من عشرة أعوام.
مهما طالت الكلمات لن نفلح في إيصال الصورة الحقيقية للمشهد خلف القضبان، ولكن آهات الأسرى وأناتهم من المفترض أن تخترق أسماع العالم منذ سنوات طويلة.