يُجرم الاحتلال أبناء الشعب الفلسطيني، بأصغر أنواع المقاومة، يرون في رفع علمٍ إيذاناً بقرب موعد رحيلهم، تزعجهم كلماتهن حين يصدحن بالحرية، يسوقون أنهنَّ إنما هربن من حياتهنَّ، صوب الموت، في حين يتفق جميع الأسرى على أن الحياة تكاد وهبت لهم داخل الأسر، فلا أفظع من سرقة كرامة إنسان، وسلبه شعور الحرية حتى خارج الأسر.
مكتب إعلام الأسرى أجرى حواراً مع والدة ووالد الأسيرة شيرين العيساوي، يطرح فيه ظروف عزلها وأسبابها وخروجها من العزل، وقرب حريتها بعد أربع سنواتٍ خطفت من عمرها لا لسببٍ سوى أنها لم تختر أن تصمت.
شيرين طارق العيساوي (39عاماً) من مدينة القدس المحتلة، إنسانة لا يجب أن تكون داخل الأسر، كمثل 60 أسيرةً لا يجب أن تنام جفون شخصٍ حر وهن داخل الأسر.
شيرين المحامية والإنسانة ليست من النوع الذي يسكت حين يرى ظلماً، فهي حين درست القانون، أقسمت أن لا تسكت عن الظلم، ولأن كمية الظلم في بلادنا لا يمكن تحجيمها، اعتقلت شيرين، واعتقل معها قلب والدتها ووالدها وأحبائها، وحتى أشقائها داخل الأسر.
خلال حديثٍ خاطفٍ مدمي مع والد الأسيرة شيرين العيساوي لمكتب إعلام الأسرى، أكد بأن والدتها الأقدر على سرد معلوماتها، سلمها دفة الحديث، فلم يكن ليستطع وصف معنى أن تكون ابنته داخل سجون الاحتلال.
قرابة الساعة من البكاء، من تحديد معالم الكلمات، التي تنطق بها أم سامر العيساوي، الأم والصديقة والأخت والقلب المفطور لابنتها شيرين، ساعة من محاولة فهم تضاريس وصف حال الأسر دون صوت البحة في قلبها.
الجلد الأزرق
التقطت أم سامر العيساوي أنفاسها، وعادت للحياة مجدداً، وصفت وضع ابنتها بتفاصيل مؤلمة، فقالت" أتذكر أن مجموعة من الأسيرات قمن برفع علمٍ حين كانت في سجن هشارون، لم يعجب ذلك الاحتلال، إدراة السجن حالاً أقرت أن شيرين هي وراء العمل، يعتبرونها العقل المدبر في الأسر، وأي حادثة تغضبهم، يصبون جل غضبهم عليها".
تتذكر والدة الأسيرة شيرين العيساوي كيف أدماها جنديٌ درزي من شدة الضرب، كيف لم يعلم المحامي كيف يوصل لعائلتها خبر البقع الزرقاء التي تكتسي جسدها كاملاً من آثار الضرب، كيف أنها تعرضت مراتٍ لنزيفٍ من أثر الضرب الشديد.
تقول أم سامر" حين أنهت شيرين فترة العزل الانفرادي الذي فرض جزافاً بحقها في معتقل الجلمة قبل 55 يوماً، أراد الاحتلال إعادتها إلى سجن هشارون".
شيرين تذكرت ما تعرضت له من أذى في معتقل هشارون، فرفضت قطعاً الدخول للأسر، ما دفع الاحتلال لعزلها من جيدد داخل عزل هشارون، عزلٌ ليس أقدر على وصف قذارته سوى شيرين.
شهر ونصف.. ولكن
تشير والدة الأسيرة العيساوي، لمكتب إعلام الأسرى، إلى أنه تقرر إنهاء عزل شيرين وإعادتها إلى معتقل الدامون، حيث كانت متواجدة في بداية المطاف، بعد 55 يوماً.
كانت أم سامر العيساوي، تكاد تطير فرحاً حين سمح للعائلة بزيارة ابنتهم بعد هذه الفترة، تحضر أبو سامر وأم سامر للزيارة، سترى أم سامر ابنتها، ستتبادلان جرعاتٍ من الصبر.
ولكن...لم تكن شيرين هي ذات الفتاة التي تركتها أمها، لم تتعرف عليها، تقول" عادةً حين تغيب عن شخصٍ ما، تتذكره على الأقل من ملامحه، فكيف إذا كان من لحمك ودمك، لم أعرف شيرين، لم أميزها، لم تملك أي ملامح يمكن أن تؤكد لي أنها هي".
دقائق مرت على صدمة أم سامر وأبو سامر حين شاهدا شرين، تقول أم سامر" دخلت فتاة ترتدي لباس الصلاة، كان واسعاً ولم يبدو كأن هناك أحداً بداخله، كشبح كانت، لم أعرفها، إلا حين جلست أمامنا خلف الزجاج، لم أستوعب الموقف، أين ذهب وجهها؟؟ أين ذهبت الابتسامة؟؟".
روت شيرين لوالديها ما حدث معها خلال 55 يوماً، قالت شيرين: كان العزل يحوي كاميرا تعمل على مدار الساعة، لم أستطع أن أنال خصوصيتي، لم أستطع الاستحمام، لم أتناول الطعام، لم أشرب الماء، لا وجود لمغسلة في مكان داخل الزنزانة، لا ضوء لا هواء، لا حياة.
كانت شيرين تستمر بالحديث ووالديها منصتان، تقول أم سامر العيساوي" ابنتي لا تتناول الأطعمة التي يقدمها السجان، هي تكتفي بمال الكانتينا الذي نبعثه، وتأكل أطعمة محكمة الاغلاق، ولأن العزل يعني تقديم وجبات من السجان، فهي لم تأكل".
تضيف أم سامر" شيرين أخبرتني أنها كانت تمضي ليالي في حك جسدها ورأسها، بسبب عدم قدرتها مدة شهر ونصف على الاستحام، لمراقبة السجان لزنزانتها مدة 24 ساعة، أنا لم أفهم كيف بقيت شهر ونصف دون استحمام، لم أعلم أن بمقدور أحد أن يمضي هذه الفترة بدون استحمام".
شيرين تعرضت للضرب المبرح، كانت مريضة حسب تأكيد والدتها، ولم يراعي الاحتلال ذلك، ولشدة ما تعرضت للضرب، أصيبت بنزيف وتكرر الأمر خلال أكثر من تنقل بين السجون، وخلال أكثر من عزل، على مدار السنوات التي قضتها داخل الأسر.
لا تزال إدارة السجن تحمل الأسيرة شيرين العيساوي ذنب كل ما يحدث داخل المعتقل، يعتبرونها القائدة والمدبرة، وعلى أهون سبب يتم عزلها، فالأسيرات تعرضن للعزل والعقوبات، لكن شيرين تلقت معاملة خاصة من العذاب.
تؤكد والدتها،أن الاحتلال حرمها أيضاً مال الكانتينا الذي كان يرسله ذووها، وصادره بحجة اعتباره مالاً لتسديد غرامة مالية استحقتها بسبب أحداث سجن الدامون، ما اضطر الأسيرة العيساوي للبقاء دون طعام مدة 55 يوماً.
حتى هذا اليوم تردد أم سامر العيساوي، لم أعرفها، كيف لم أعرف ابنتي، كيف تركتها هناك وعدت للمنزل، لطالما كانت الحياة التي تنبض في جدران هذا البيت، لم تسكت يوماً على الظلم، حين خاض شقيقها سامر العيساوي إضراباً مفتوحاً، كانت تنشر الأخبار باستمرار عنه، تنظم حملات تضامنية معه، لا تعود للبيت إلا في نهاية اليوم، ثم تعود أم سامر لتقول: لم أعرفها..لم أميز ابنتي.
بين أكوام الأحزان، تذكرت أم سامر فرحة تعتبرها قريبة جداً، رغم أن هناك أربع شهور متبقية، تقول أم سامر" بقيت أربع شهور على موعد الإفراج عن ابنتي، ستنهي حكم أربع سنوات، ستعود الحياة للبيت، ستعود ابنتي".