وُلد أسيرًا... وارتقى شهيدًا: يوسف الزق، الطفل الذي لم يعرف الحرية إلا قليلًا
تقرير/ إعلام الأسرى

من أين يمكن أن نبدأ الحكاية؟

لربما من النهاية مثلا!..

"الله يسهل عليك يا يمّا.. الله يسهل عليك"..

"كنت تحب الحياة.. بس همّ ما خلوك تعيشها"..

هذه كلمات أمّ مفجوعة بابنها الفقيد.. ابنها الذي عاصر معها كل أنواع الألم والوجع والفقد منذ كان جنينًا في رحمها إلى أن أبصر الحياة لكنها كانت معتمة لا نور فيها!!

إلى أن منّ الله عليه بأن يعيش حياته دون قيد.. لكنه أخيرًا ارتقى إلى العلياء شهيدًا.. تاركًا خلفه أمه.. تبكيه وتحتضنه الحضن الأخير بعد 17 عامًا وستة أشهر تقريبًا من حياة بدأها أسيرًا وختمها شهيدًا..

بطل حكايتنا اليوم.. هو يوسف الزق، ابن الأسير المحررة فاطمة الزق التي اعتقلت في الـ 20 من مايو/أيار 2007، أثناء توجهها إلى حاجز إيرز شمال قطاع غزة، وكان هو جنينًا في شهره الثاني من الحياة داخل رحم والدته.

اعتقلت فاطمة آنذاك، وبدأت رحلة سجن استمرت قرابة سنتين و4 أشهر و12 يومًا في تحقيق سجن عسقلان ثم سجن هشارون.

يوسف أطلق صرخته الأولى ليكون الرفيق الأوحد لوالدته في السجن بتاريخ 17 يناير 2008، صرخ ليخبر أمه أن وجوده سيزيل عنها وجع القيد المكبل لأرجلها ويديها، صرخ وهو يستجدي الحضن الأول منها، لكن ذات القيد منعها أن تضمه وتقبله، وبقي معها يوسف لأسابيع دون وثائق رسمية أو رعاية طبية تليق بطفل بدأ للتو بالتنفس، وهو لا يعرف ما ينتظره!!

بل ما زاد الطين بلة أن يخضع طفل في شهوره الأولى لإجراءات تفتيش مهينة، ومنعه أحيانًا من تلقي الحليب، والغذاء اللازمين لعمره، فهو كان يعد "خطرًا أمنيًا"، وتعامله إدارة سجون الاحتلال باعتباره "سجينًا بالغًا".

لكن وكما قالت عنه والدته بعد التحرر.. كان يوسف تلك النسمة الجميلة التي أرسلها الله لها ولكل الأسيرات في سجون الاحتلال، فكلما أظلمت الدنيا في وجوههن وشعرن بقهر السجان، كان يوسف بحركاته الطفولية يعيد البسمة لقلوبهن، ويشعرن أن الغد الأجمل قادم لا محالة رغم كل الألم والوجع.

بعد سنة وثمانية أشهر تقريبًا.. تنسم وأخيرًا يوسف عبق الحرية، ليرافق والدته في 2 أكتوبر 2009 مع أسيرات تحررن بعد استلام قوات الاحتلال الإسرائيلي شريط فيديو من المقاومة الفلسطينية يظهر أن الجندي الأسير جلعاد شاليط ما يزال حيًا، وثمن هذه المعلومة كانت حرية الطفل يوسف!

طفل قارب عمره على إكمال العامين لم تكن له أي صورة لحظة الميلاد، ولم يسمح الاحتلال لوالدته بتصويره خلال مدة سجنه، فبقي مجهول الملامح حتى تحرر.. خرج يوسف عندها ليتعرف على أشياء لم يكن يعلم أنها موجودة.. لم يعد للعبه حدود.. لم تعد هناك أسقف تمنعه رؤية الشمس، لم يعد هناك جدران تمنعه التنزه واللعب في الحدائق، عرف أن هناك ما يطلق عليه "بحر".

وتمكن يوسف من عناق عائلته وإخوته، وعرف أن هناك عالمًا غير السجن، وبدأ رحلة الحرية الجميلة برفقة أقرب الناس إلى قلبه.. أمه فاطمة، وحصل حينها على شهادة ميلاد يحق له أن يفتخر بها أينما كان فهي شهادة ميلاد فلسطينية، بعد أن كان مصدر فخره الوحيد فقط أنه ابن الأسيرة فاطمة، فزاد فخره فخرين.

ويوسف مثله كأي أسير يخرج من سجون الاحتلال، امتلأ قلبه الصغير بصدمات احتاجت عمرًا منه ومن والدته، ليخترق الوجع ويعود قادرًا على مواجهة الحرية والساحات المفتوحة، ليتأكد أنه حقًا قادر على اللعب والضحك دون عقاب له أو لوالدته.. فـ ابن الحرية.. أخيرًا حر!!! هل يمكن أن يصدق هذا حقًا!!!!

يوسف يعد رمزًا أساسيًا وركنًا مهمًا في قضايا الأسرى الفلسطينيين، وكثيرًا ما تناول الإعلام قصته، وأصبح علامة فارقة في سجل الحركة النسوية الأسيرة الفلسطينية..

لكن ماذا كان يخفي القدر ليوسف؟ منذ عامين تقريبًا وفي الوقت الذي كان يصادف تقريبًا ذكرى تحرره من سجون الاحتلال، بدأت حرب الإبادة المستمرة على قطاع غزة، وعاش يوسف مجددًا الوجع، والتشرد، والنزوح في جنبات مدينة غزة، إلى أن قدر الله له أن ينال الراحة بعد حياة ليست طويلة له، لكن لم تكن نهاية حياة يوسف إلا نهاية تليق ببداية حياته..

يوسف بدأ حياته أسيرًا فقدر الله له أن يختم حياته شهيدًا ليخلد ذكره بين العالمين، لعل فراقه شهيدًا يكون أخف وطأة على قلبه رفيقته وحبيبة قلبه أمه الصابرة فاطمة الزق، التي كانت تخفيه في قلبها وحضنها كلما سمع صوت المفاتيح خشية أن يرى وجه السجان فيزداد فزعه..

ذات يوم قالت فاطمة: "كلما نظرت إليه شعرت أنني خرجت من السجن نصف حرة.. لأن يوسف لا يزال يحمل آثار الزنزانة داخله"، لكنها ربما اليوم تغدو حرة كاملة بعد ارتقائه.

الآن يا أم يوسف.. سينام طفلك آمنًا مطمئنًا في كنف الشهادة، لن يفزعه صوت مفاتيح الزنزانة، ولن ينهض من نومه مذعورًا بعد غارات الاحتلال المتتالية في قطاع غزة، لن يدفن جسده في حضنك الدافئ يبكي خوفًا من أي موقف.. غادرك يوسف شهيدًا.. فصبّر الله قلبك وقلب كل أمّ ما زالت تتجرع وجع الفقد..

إلى هنا وبتاريخ اليوم السبت الموافق 12 يوليو 2025، تنتهي حكاية الأسير المحرر يوسف بارتقائه شهيدًا..

جميع الحقوق محفوظة لمكتب إعلام الأسرى © 2020