ليست حجراً يُلقى على جانبي الطريق.. ولا قصيدةَ حزنٍ تُروى في زمنِ الغُربَة. هي الحكايةُ التي تبدأُ من جُرحٍ ولا تنتهي عند حدودِ السماء. امرأةٌ تحملُ بيتَها على كتفِها، وتزرعُ قمحَ الأملِ في أرضٍ تشظّتْ تحتَ دبّاباتِ الاحتلال.
في عينَيها وطنٌ يرقصُ فوقَ أسلاكِ الحدود، وفي يديها خبزٌ يُعجنُ بملحِ الدموعِ وقصصِ السجون. تُمسكُ بيدِ طفلٍ ليصنعَ من دمعةِ يتيمٍ سلاحاً، وباليدِ الأخرى تُمسكُ جذوةَ الحياةِ في بيتٍ ينهارُ تحتَ القصف. لا تُخفي وجعَها، لكنها تُحوّلهُ زيتوناً يضيءُ دروبَ المُقاومة.
هي الأمُّ التي تدفنُ ابنَها ثم تُمسكُ بمصحفِهِ لِتقرأَ للكونِ دروساً في الكرامة. هي الأسيرةُ التي تُحوّلُ زنزانتَها إلى مدرسةٍ تُدرّسُ فيها جدرانَ السجنِ معنى الحرية. هي الفلاحةُ التي تزرعُ الأرضَ رغمَ استشهادِها، فتخضرُّ سنابلُ القمحِ من دمائِها.
لا تُشبهُ أحداً.. لأنها صَنعتْ من ألمِها سلماً للسماء. تُقاتلُ بالحليبِ الذي تُرضعُهُ لطفلِها، وبالقهوةِ التي تُعدُّها لجارِها الجريح، وبالشالِ الذي تُعلّقهُ على شباكِ بيتِها المُهدّم. تعرفُ أن الاحتلالَ قد يسلبُ الأرضَ، لكنه لن يسرقَ البسمةَ التي تختزنُها في عينَيها لأجلِ غدٍ يلوحُ من بعيد.
الأم الفلسطينية: كأنها النهرُ الذي يجري تحتَ الرصاصِ ليُروي شجرَ الزيتون. تحملُ في قلبِها كلَّ أسماءِ الشهداءِ، لكنها لا تنسى أن تُغنّي لطفلِها قبلَ النوم. تُدركُ أن الحياةَ هُنا معركةٌ صغيرةٌ في حربِها الكبرى: أن تبقى.
الأم الفلسطينية: سِجِلٌّ من الألم يُنقَشُ على جدارِ الزمن
في السابع من أكتوبر 2023، لم تكن الأرقامُ مجردَ أرقام.. كانت ٥٠٠ امرأةً تُمسحُ أسماؤهنَّ بدمعِ الوطن، ويُختَزَلُ مصيرُهنَّ بين قضبانِ السجونِ ودهاليزِ التحقيق. بناتٌ قاصراتٌ تحملنَ هويةَ "الأسيرة" قبل أن يعرفنَ معنى الحياة، وأمهاتٌ يُنتَزَعنَ من أحضانِ أطفالٍ لا يزالونَ يبحثونَ عن دفءِ حضنٍ في ليالي الخوف. امرأةٌ حُبلى تحملُ تحتَ قلبِها جنيناً، وفوقَ جسدِها أغلالاً، وكأن الاحتلالَ يخشى أن تولدَ معها ذاكرةٌ جديدةٌ للحرية. من بينهنَّ، ٢٥ أسيرةً ما زلنَ يُصارعنَ الظلامَ خلفَ القضبان، ١٤ أما فلسطينية حرمهن الاحتلال من الحرية واحتضان فلذات أكبادهن، وأسيرةٌ من غزّة، سِهام أبو سالم، تحملُ في صمودِها جراحَ مدينتها المُحاصَرة. وبينَ الجدرانِ، تُصارعُ أسيرةٌ أخرى السرطانَ بجسدٍ منهك، بينما يرفضُ السجّانُ أن يعترفَ بأن الألمَ قد يكونُ أقوى من كلِّ القيود.
71 أسيرةً عُدنَ من ظلامِ السجونِ ضمنَ "صفقة طوفان الأحرار"، لكنهنَّ حملنَ معهنَّ ذكرياتِ أقبيةٍ لا تُغسَلُ بالدمع. عُدنَ إلى عالمٍ تغيّرَ: أطفالٌ كبروا دونَ أمهاتٍ، وبيوتٌ فقدتْ سقوفَها، وأحلامٌ علّقها الاحتلالُ على أسلاكِ الحدود. لكنهنَّ، كالعادة، لم ينكسرنَ… زرعنَ الأملَ في الأرضِ اليابسة، وقلنَ للكون: "انظروا، نحنُ من يُعيدُ للحريةِ معناها". حتى اللحظة، ترفضُ آلةُ القمعِ الإسرائيليةُ إدراجَ أسيراتٍ اعتُقلنَ قبلَ السابع من أكتوبر في صفقاتِ التبادل، وكأنها تُريدُ إطالةَ عمرِ الجرحِ ليُصبحَ شاهدا على وحشيةٍ لا تنتهي.
تصاعد غير مسبوق في انتهاكات الاحتلال بحق الأسيرات الفلسطينيات
تشهد سجون الاحتلال الإسرائيلي تصاعداً لافتاً في وتيرة اقتحام زنازين الأسيرات الفلسطينيات، خاصة بعد سبتمبر/أيلول 2024، حيث حوّلت إدارة السجون كافة تفاصيل الحياة اليومية للأسيرات إلى أدوات تعذيبٍ ممنهج، وفقاً لتقارير حقوقية.
في أكتوبر/تشرين الأول 2024، شهد سجن "هشارون" – المُستخدم كمحطة انتقالية قبل نقل الأسيرات إلى سجن "الدامون" – عمليات اقتحامٍ عنيفة من قبل وحدات قمعية (اليماز)، رداً على احتجاجات الأسيرات ضد سياسة العزل الانفرادي
تداعيات دولية.. وصمتٌ مخز
رغم إدانة منظمات دولية لهذه الانتهاكات، ووصفها بأنها "خرقٌ فاضح للقانون الدولي"، لا تزال آلة القمع الإسرائيلية تواصل انتهاكاتها، وسط غياب آليات دولية فعّالة لحمایة الأسيرات، خاصةً مع استمرار احتجاز ٢٥ أسيرة، بينهن أطفال وأمهات ومريضات.
هذه الانتهاكات ليست سوى فصلٌ آخر من سجلّ الاحتلال الأسود، الذي يحوّل حتى جدران السجون إلى أدواتٍ لاستهداف كرامة الفلسطينيين، بينما تُواصل الأسيرات كتابة ملحمة صمودٍ تفضح وحشية الآلة العسكرية الإسرائيلية.
الأسيرات الأمهات : جرح مفتوح لا يلتئم إلا بتحريرهن
تتطابق شهادات المحررات مع عشرات الروايات التي وثقتها منظمات حقوقية، والتي تؤكد تعرض الأسيرات لـ:تفتيش جسدي عارٍ مصحوب بإهانات لفظية وحرمان من الاحتياجات الأساسية كالغذاء الكافي والملابس والأغطية و تعذيب نفسي عبر التهديد بالاعتقال المُجدد أو إيذاء الأهل بالإضافة للإهمال طبي متعمد، خاصةً مع وجود أسيراتٍ يعانين من أمراض مزمنة.
بحسب تقارير "هيومن رايتس ووتش"، تحوّل سجن الدامون إلى "رمزٍ لانتهاك حقوق الأسيرات"، حيث تُحتجز نساءٌ وأطفالٌ في زنازين مكتظة، تُمنع فيها الزيارات العائلية، وتُخزَّن الأدوية الأساسية في ظروف غير ملائمة. وتُشير منظمة "بتسيلم" إلى أن 70% من الأسيرات المُحررات تعرضن لشكلٍ من أشكال التعذيب الجسدي.
رغم المحاولات الإسرائيلية لكسر إرادة الأسيرات عبر هذه الانتهاكات، إلا أن تُظهر كيف حوّلن الزنازين إلى ساحاتٍ للصمود، فيما تواصل منظمات دولية الضغط لفضح سياسات الاحتلال، والمطالبة بمحاسبة قواته على جرائمها التي تُنتهك القانون الدولي.
*الأم الفلسطينيةُ هي الأمُّ* التي تُعلّمُ أطفالَها أن البكاءَ لا يليقُ إلا أمامَ الله، هي الأسيرةُ التي تُحوّلُ خبزَ السجنِ إلى قضيةٍ تُحرّرُ بها رفاقَها، هي الطفلةُ التي ترفضُ أن تُسلّمَ اسمَها للجلاد. كلُّ اعتقالٍ يُضافُ إلى سجلِّهنَّ هو دليلٌ آخرُ على أن الاحتلالَ يخسرُ الحربَ كلَّ يوم… لأن المرأةَ الفلسطينيةَ تلدُ الحياةَ حتى تحتَ الرصاص.