بين الحين والآخر تهاجم شرطة الاحتلال منازل الأسرى المحررين أبناء العمومة كريم وماهر يونس منذ تحررهما في الشهر الحالي، فحتى بعد أربعين عاما كاملة من الظلم والمعاناة والقهر في سجون الدولة العنصرية لم تكف تعطش المحتل لإمعان كل تلك الكومة من المصطلحات القاسية بحقهما.
ورغم أن كريم وماهر كلاهما زار في بداية تسلل نور الحرية إلى جسديهما؛ قبور الأحبة وما تبقى من عطر التصق بالتراب الذي احتضن أولئك الذين اختطفهم الموت قبل أن يروا وجهيهما دون قيود ولا زيارات في الزنازين، إلا أن الاحتلال ما زال يشعر أنه لم يفعل ما يكفي لقهرهما!
تحرر ماهر بعد أيام من حرية رفيق دربه الثوري كريم وهما يحملان على ظهريهما هم الوطن المقيد، تحررا من قيود صغيرة ليخرجا إلى وطن سجين لا يختلف كثيرا عن الغرفة التي كانا معتقلين بها، الشيء المختلف الوحيد أن الاحتلال لم يبتكر بعد سقفا للسجن الأكبر.
تلفّت ماهر حوله بعد حريته وهو ينظر إلى كل تلك الوجوه الغريبة، يشعر أنه الغريب بينها وما هو إلا أصل الحكاية.. أجيال بلدته عارة وكل وطنه فلسطين تربّت منذ أربعين عاما على تكرار اسمه واسم كريم في المناسبات الوطنية وترديد القسم والعهد لهما بالعمل على حريتهما القريبة، وبعد إكمال حكمهما كاملاً توسعت الأنظار لترى الفارق بين الصور والحقيقة، لترى أثر القيد والزنازين على عمر بأكمله وتصاب بالذهول.
في أحد الأيام خرج أحد السجناء الأمريكيين من سجنه في دولته بعد عشرين عاما؛ فتدافعت جمعيات حقوق الإنسان لتصويره ومقارنة شكله الحالي بصوره قبل الاعتقال.. أما حين نتحدث عن شخص ثار لوطنه وأمضى معظم عمره في السجون واعتقل ظلماً وعُذّب ظلما وخرج بعد أربعين عاما لا يشبه شيئا من شكله قبل الاعتقال، فلا بواكي له ولا جمعيات تدافع عنه ولا حقوقيون يتدافعون لالتقاط الصور معه.
الأدهى من كل ذلك أن شرطة الاحتلال لم تكمل فرحة الحرية، حاولت قتلها بكل ما تملك، فالاقتحام والاعتقال مستمر، ومنازل كريم وماهر أصبحت مستباحة أمام وحشية جنودها، حتى صورهما تم تمزيقها ورميها في القمامة.
بعد لحظات فقط من الاستمتاع بنسيم الحرية العليل، اعتقل الجنود ماهر مرة أخرى، كان يظن أنها مزحة ثقيلة من احتلال ثقيل، ولكنها كانت واقعا حين نقل إلى مركز استجواب أعاد له ذكرياته قبل أربعين عاما حين كان شابا، والآن وهو ستيني يعاد اعتقاله والتحقيق معه.
الشروط مثيرة للضحك، ابتسم ماهر وحاول إمساك ضحكة عالية كاد يطلقها أمام ضابط الاحتلال حين أخبره أنه ممنوع عليه أن يحتضن أي شخص في استقباله، بل التسليم فقط في اليد، أجاب ماهر وماذا أفعل إذا اقترب شخص لاحتضاني؟ أطرده مثلا؟ وأكمل ابتسامته المعهودة، قفز الضابط من كرسيه وقال بعصبية "ماهر، ممنوع عليك أن تتناول اللحم المشوي"!
أي دولة هذه التي تحدد شروطا خشية احتفال صغير، هل تخشى أن يكون بداية نهايتها مثلا؟ أم تعلم يقينا أنها الأظلم وأن الظلم لا يدوم أبدا؟
تنفس ماهر أخيرا وخرج إلى تراب أرضه، تراب بدلا من إسمنت مسلح كان يثقل خطواته طيلة الوقت، غريب هو صوت الحرية، نعم الصوت المصاحب لخطواته دون سلاسل، دون ارتداد الصدى عن أبواب الأقسام، دون أن تتحدد الخطوات بالسنتيمتر الواحد أين تقف وأين تنام وكيف تمشي في الفورة التي تزيد القهر بدل أن تخففه.
قادته قدماه إلى المقبرة، هذا هو شكل الفرح الفلسطيني، أن تزور قبرا لأب غيبه المرض والموت عنك، كان يلامس سطح شاهد القبر وكأنه يطلب السماح منه عن غيابه طيلة هذه السنين، الكل وقف وبكى أمام ألم ماهر كما وقفوا وبكوا أمام ألم كريم حين مسح دمعات أمه عن شاهد قبرها.. وهل الدمع يجف؟ وهل يختفي هذا الجرح الأكبر؟
خرج ماهر من المقبرة محملا بكل الذكريات، عانق والدته المحظوظة التي حققت حلمها برؤيته وهي على قيد الحياة، قبّل وجوها عرفها والكثير ممن لم يعرفها، حدّق في تفاصيل بلدته كثيرا ولكنه لم يرتو بعد من شوقه لها.
حرية ماهر ليس منقوصة كما يفتعل الكثيرون، حريته هي الكاملة، كل نسمة هواء بعد السجن حرية، وكل شربة ماء بعد السجن حرية، وكل خطوة بعد السجن حرية، وكل وجه رآه بعد السجن حرية..
أما تلك الأكفان في عتمة الزنازين فهي التي لم تذق الحرية بعد، وهي التي لم يحدد لها الحكم المؤبد بأربعين عاما كما نجا منه ماهر وكريم رغم المرار الذي ذاقاه، ما زال المؤبد مفتوحا، وما زالت الحرية مقيدة في زاوية السماء المقطعة بأسلاك السجن.