جلست على درجات منزلها وأثر العمر يملأ فراغات وجهها المتعب، تحمل بيدها مصحفاً تحب أن تقرأ صفحاته في الهواء الطلق، وبين آيةٍ وأخرى ترفع رأسها مرسلةً نظرها للسماء فتطلق تنهيدةً وتتابع القراءة وفي قلبها شوقٌ مشتعل ليس هناك من يطفئه سوى لقاءٍ مع فلذة كبدها.
الحاجة السبعينية التي أنجبت أربعة أبناء تبحث حولها عن أثر لهم، فأكبرهم ابتلعته الغربة بعد أن طورد مرات ومرات على يد الاحتلال، والثاني ارتقت روحه برصاصة جندي حاقد أثناء ذهابه إلى جامعته، والثالث سيكمل عشرين عاما من عمر الاعتقال في سجون القهر الصهيونية، أما أصغرهم فتزوج وأنجب لها حفيدين ولم يكد يفرح بهما حتى اقتنصت حريته آلة الاعتقال الإداري، فلا يكاد يتنفس هواء حراً حتى يعاد إلى السجون.
هذا نموذج واحد للمرأة الفلسطينية، ثكلى بشهيد أو عطشى للقاء أسير أو مكلومةٍ من الغربة التي فرضتها الحالة الفلسطينية المريرة، وتتنافس النماذج حتى لا تكاد تجد مكاناً لامرأة لم تقدم أغلى ما لديها.
ورغم الدور الكبير الموكل لها إلا أنها تأبى إلا أن تزاحم الأبطال منازلهم، فتراها فدائيةً تارةً ومقاومةً تارة أخرى، ومنهن شهيدات وأسيرات ما زلن يتجرعن القيد قهراً في مقابر الأحياء.
"إسراء جعابيص" كانت مثالا للأم الحنون الهادئة التي تلاعب طفلها معتصم كل ليلة قبل النوم وتقبّله على جبينه مطلقةً العنان لخيالها لتتصوره حين يكبر وتزفه إلى عروسه يوما ما، ولكن أحلامها هذه اغتيلت في صباح أحد الأيام حين انفجرت مركبتها قرب القدس واعتُقلت وتعرضت لحروق غائرة في جسدها ما زالت حتى اليوم.
كبر معتصم سبعة أعوام منذ ذلك التاريخ، أما هي فتحاول أن تغطي وجهها الذي لا تقل حروقه وجعا عن قلبها المحترق أصلا على فراق فلذة كبدها وهي خلف القضبان، وما زالت أمامها سنوات للحرية بينما خيالها يعود لينسج أحلاماً أخرى تولد من رحم الحرية.
أما أم ناصر فتلك حكاية مختلفة، هُجرت مع عائلتها من قريتها الأم عام ١٩٤٨ وذاقت مرارة النكبة وظلم اللجوء، وحين تزوجت وأنجبت أبناءها كانت تحضّر لهم لباس الزفاف وتحب أن تحتفظ بأسماء تحبها كي تطلقها على أحفادها حين ولادتهم، ولكن الاحتلال كان بالمرصاد حتى هنا، قتل ابنها عبد المنعم بعد مطاردةٍ وقتالٍ مشهود له فيه بالشجاعة والإقدام، ثم اعتقل أبناءها ناصر ونصر ومحمد وشريف قبل عشرين عاما وما زالوا رهن الحكم المؤبد، ثم اعتقل نجلها إسلام قبل بضعة سنوات وحكم عليه بالسجن المؤبد كذلك، وهدم منزلها ثلاث مرات لتعيد صورة التشريد من جديد.
وفوق كل ذلك يصارع ناصر الموت الذي قد يباغته في أي لحظة بسبب مرض السرطان دون أن يشفع له أمام محاكمهم بالإفراج؛ كي يكون وجه أمه آخر ما يراه..
المدرسة الأولى
الأسير سعيد ذياب الذي يتجرع مرارة القيد منذ ١٦ عاما برع في وصف المرأة الفلسطينية، كيف لا وهو أحد الأسرى الشاهدين على معاناتها وتكبدها القهر والوجع لرؤية قطعة قلبها؟!
ويقول في وصفها:" المرأة الفلسطينية ليست مجرد توصيف جندري يميز أو يشخص أو يشير ولا تنحصر مترادفات المعاني التي يبعثها المصطلح على فرادَة واحدة بعينها ولا حتى اثنتين، فالدلالات تتوالى وتحضر الكثير من المواقف والصور ما إن تزدان المسامعُ بذكرها".
ويشرح تفاصيل هذا الوصف فيضيف:".. وإذا ما أراد البيان أن ينثرها درراً تكتبها الحروف على استقامات السطور، فهي الأم التي لو كان اللسان ناطقاً بكل شيء؛ لقعدت به الفصاحة عن شرح تمام البطولة في سلوكها لحظة تشييعها لبعض روحها إلى مواقع الحدوث بالرضا، والزغاريد، وقد تكون مدرسته الأولى، التي يحبو في مساحاتها الدافئة، تلقنه أبجدية الحياة، وتمهد له الأرض؛ ليخطو بثبات نحو مسار دنياه الفسيح".
وبحسب ذياب فهي الزوجة أيضاً التي اختارت أن تعقد رباطها المقدس في محراب الفداء لزوج ارتضى أن يكون الوطن عرضه الذي يبنيه أو يحرسه ويفديه إن طلب الثمن إذ ضعفت عن نجدته السياسة وتكالبت عليه سهام الخذلان، وهي لغائبها الأسير دنياه التي ضاقت على اتساعها، وتكتفت بين جدران أربع، وبقيت هي على عهد الوفاء، تمده بأنوار الأمل المنبعث من قلب ينبض حباً ورضاءً وأماناً، وتحفظ غيبته في نفسها ومالها وولدها لملحمية حقيقية فاقت تفاصيلها كل الأساطير المرسلة من دون تحقيق أو توثيق.
وهي الأسيرة - كما قال- التي زاحمت في ميدان الرجولة وعلمت بفطرتها الفلسطينية أنَّ معناها أكبر من أن ينحصر في ذكورة أو تأنيث، وإنما هي فعل فيه من النبل والشهامة والمروءة والشرف والفداء ما فيه من الغيرة والإقدام والتضحية والبذل والعطاء، وبذا فهن الحرائر في قيود لم تأسرهن قطعاً بل أسرت منطق الخور والضعف والاستسلام.
ويتابع:" وهي السنديانة المعمرة بأرض تحفظ بملامحها ذاكرته وتراثه أهازيج العودة وتترنم بها في صباحات التجلي، وتنقل إرثها للأجيال تحمله بين ضلوعها عن وطن كان يوماً سهلاً من امتدادات السنابل، وبحراً يرسم قبلته على انحناء خريطته الأجمل قبل أن يغدو مستباحاً للطامعين".
واختتم حديث قائلا:" هذا بعض ما قد يقال عن المرأة الفلسطينية والكثير الكثير لم يقل بعد، فالمرأة هي فلسطين وفلسطين هي المرأة، وهيهات لأي بلاغة أن تحكيها فعند قدميها تنبض المعاني ويتواضع الكبرياء".