لم يعد بالإمكان تجاهل أهمية عملية "نفق الحرية" التي نفذها ستة أسرى فلسطينيين في السادس من أيلول/ سبتمبر من العام 2021 من سجن جلبوع أحد أقسى السجون الصهيونية في التنكيل بالأسرى وأكثرها تحصينا.
ولم تعد عملية "نفق الحرية" محصورةً بالأسرى الستة فقط، بل شكلت حالة من الثورة ضد السجان والتي تبعتها خطوات عديدة حاول الأخير خلالها سحق إنجازاتهم ومعاقبتهم والالتفاف على ثورتهم، ولكنهم استطاعوا بوحدتهم أن يقهروا جبروته وأن يحققوا إنجازاتٍ كتبوا مدادها بالدم والآهات.
نفق "جلبوع"
استفاق الاحتلال فجر السادس من أيلول العام الماضي على عملية معقدة هزت أركانه، لم يستخدم منفذوها أسلحة سوى الإرادة، ولم تكن بحوزتهم التكنولوجيا الفائقة بل امتلكوا ما هو أقوى منها وهو الإيمان بالتحرر من القيد.
أعلنت يومها وسائل إعلام صهيونية أن ستة أسرى فلسطينيين تمكنوا من الخروج من سجن جلبوع شديد الحراسة عبر نفق حفروه داخل دورة المياه داخل غرفتهم، وتبين بعد ساعات قليلة أن الأسرى هم محمود العارضة ومحمد العارضة من عرابة جنوب جنين ويعقوب قادري من بير الباشا غرباً وأيهم كممجي من بلدة كفر ذان المجاورة، وجميعهم محكومون بالسجن المؤبد ومعتقلون منذ بدايات انتفاضة الأقصى التي اندلعت عام 2000، إضافة إلى الأسيرين زكريا الزبيدي من جنين ويعقوب انفيعات من يعبد جنوبا، وكانا ما زالا موقوفين وقتها.
جُنت الآلة الأمنية الصهيونية أمام هذا الحدث الذي اعتبرته وسائل إعلامها فشلا ذريعا وضربة للقبضة الأمنية التي تخنق السجون المختلفة وتحديدا "جلبوع"، وبدأت جهود البحث عن الأسرى العزل المتسلحين بحبهم للحرية والتوق لها بأشد المعاني.
شملت عمليات البحث جميع الأراضي الفلسطينية المحتلة القريبة من السجن واستدعيت كل الوحدات لاعتقال الأسرى الستة الذين مرغوا بالتراب وما تحته صورة الاحتلال المتبجحة أمام العالم، ولأنهم لم يملكوا طعاما ولا ماء ولم يرغبوا بإلحاق تهم للأهالي في الداخل المحتل، افترشوا أرض بلادهم التي لم يروها يوما ولم يطرقوا أبواب المنازل، كما أكلوا من خيرات أشجارها وثمارها دون أن يتسببوا بخطر أمني على حياة إخوانهم وأبناء شعبهم.
بعد ملاحقة استمرت أياما وعلى ثلاث مراحل أعلن الاحتلال إعادة اعتقال الأسرى الستة من مناطق مختلفة في الداخل المحتل ومدينة جنين، وأراد أن يعتبر ذلك إنجازا ونصرا تاريخيا له، ولكن كلمات الأسرى في جلسات المحاكمة الطويلة التي تعرضوا لها كانت تطفئ هذا البريق الكاذب، وتؤكد أن إرادة فلسطيني واحد تفوق سلاح دولة الاحتلال بأكمله.
وبعد كل ذلك خرج الملثم الذي تفرح القلوب لكلماته، ووعد الأسرى الستة المعاد اعتقالهم بالحرية في صفقة التبادل القادمة بل أن يكونوا على رأس القائمة، لتشفى صدور الفلسطينيين جميعا بمن فيهم الأسرى وعائلاتهم.
عقوبات وإنجازات
مع أول لحظة أُعلن فيها عن عملية نفق الحرية بدأ السجان الصهيوني بإجراءات تعسفية بحق الأسرى جميعاً وتحديدا أسرى سجن جلبوع، حيث تم نقلهم من غرفهم وأقسامهم بزعم التفتيش، وحرمانهم من حقوقهم الأساسية مثل الفورة والكانتينا والخروج من الأقسام، ثم نقلهم على دفعات إلى سجون أخرى ضمن رحلة عذاب قاسية في الحافلات "البوسطات".
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ بل طاله إلى بقية السجون ليفرض الاحتلال عقوبات على أسرى حركة الجهاد الإسلامي، وطالت العقوبات إنجازات هي في الأصل حقوق للأسرى حصلوا عليها بعد معارك وإضرابات عن الطعام، ومنها التمثيل الفصائلي، وإلغاء "الكانتينا" وتقليص "الفورة"، كما انتقلت العقوبات إلى خارج السجن، لتشمل عائلات بعض الأسرى الستة باعتقال ذويهم.
وتنوعت العقوبات التي طالت كافة الأسرى ما بين حرمانهم من الزيارات ومنعهم من الخروج من غرفهم والتنقلات اليومية المتعبة لهم، كما تذرعت إدارة السجون بإجراءات أمنية لتقوم بقمع الأسرى في عدة سجون وتخريب مقتنياتهم بحجة التفتيش في عملية شاركت فيها لأول مرة وحدة "حرس الحدود".
تواصلت هذا الإجراءات لأسابيع قبل أن يقوم الأسرى باحتجاجات واسعة منها إرجاع الوجبات وحل التنظيمات والتهديد بدخول إضراب جماعي عن الطعام، كما قام الأسير المؤبد مالك حامد من بلدة سلواد شرق رام الله برشق سجان بالماء الساخن ما أدى لإصابته، وبعدها عُذب الأسير ونقل لزنازين العزل الانفرادي التي يمكث فيها حتى الآن.
الإجراءات القمعية تلك طالت حتى الأسيرات اللواتي خضن احتجاجا ضد الإجراءات القمعية بحقهن، فما كان من إدارة السجن إلا ارتكاب مزيد من القمع ضدهن والاعتداء عليهن بالضرب وعزل عدد منهن في ظروف قاسية، الأمر الذي أوصل السجون في ديسمبر/ كانون الأول الماضي إلى حالة غليان أخرى تخللتها عملية طعن نفذها الأسير يوسف المبحوح من قطاع غزة ضد سجان صهيوني وأصابه بجراح، وكذلك تم تعذيب الأسير بعدها ونقله للعزل الانفرادي حتى الآن.
بقيت السجون في حالة غضب تمثلت في خطوات نفذها الأسرى احتجاجا على القمع الذي تنفذه إدارة السجون الصهيونية بحقهم، ووصلت الخطوات ذروتها في آذار الماضي حين هددوا بدخول إضراب مفتوح عن الطعام رفضا لتلك الإجراءات، الأمر الذي أجبر الاحتلال على الخضوع لمطالبهم.
ولكن هجمة السجان لم تتوقف، حيث استمر بعدها في التنكيل والتهديد والوعيد بحق الأسرى ونقل القيادات لزنازين العزل، وتوّج إجرامه بقرار نقل مستمر للأسرى المؤبدات من غرفهم وأقسامهم وسجونهم ما يهدد استقرار حياتهم التي لا تشبه الحياة في شيء.
وبعد القرار ثار الأسرى مرة أخرى، وخاضوا معركة "موحدون ضد السجان" لتضم كافة الفصائل والتنظيمات داخل الأسر، وبدأوا بالخطوات الاستباقية قبيل الإعلان عن إضراب مفتوح عن الطعام كان سيشمل أكثر من ألف أسير مساء الأول من أيلول الجاري ردا على قرار نقل أسرى المؤبدات ورفضا لعدم التزام الإدارة الصهيونية باتفاق آذار الماضي، ولكن إدارة سجون الاحتلال رضخت لمطالبهم قبيل الشروع بالإضراب فحققوا انتصاراً جديدا ينتظرون قطاف ثماره قريباً.