يفتقد تلك اللحظات الممتعة التي كانت تجمعهما؛ كان يحب أن يمسك بيده وهما في الطريق للمسجد وأن يتظاهر أنه شاب كبير يسير إلى جانب والده، ثم يبتسم إذا مرّا بجانب شخص يعرفانه فيقول للأب كم يشبهك ابنك!
ولكن هذه الأوقات الجميلة لم تدم طويلا في حياة الطفل محمد ابن الخمسة أعوام؛ فخفافيش الليل من جنود الاحتلال كانوا يسلبون حرية والده المهندس علاء سميح الأعرج مرات كثيرة، بل كان ما يلبث محمد أن يعتاد وجود والده في المنزل ويفرح به حتى يعاد اعتقاله مجددا دون تهمة ولا محاكمة تحت نير الاعتقال الإداري البغيض.
هذه الحياة الملأى بالقهر دفعت الأسير علاء للالتحاق بركب الأسرى المضربين عن الطعام الذين يشهرون سلاحا وحيداً أمام سجانهم وهو الجوع كي ينالوا حريتهم.
والآن بعد أن قارب الأعرج على تجاوز ثلاثة أشهر من الإضراب المفتوح لرفض الاعتقال الإداري الجائر بحقه؛ يعيش طفله الوحيد محمد أياما قاسية تجعله يحبس الدموع عنوة في الوقفات التضامنية لإسناد إضراب والده.
وتقول والدته أسماء قزمار إن طفلها يسأل كثيرا عن والده؛ ولكنه لا يحب التصوير، وإنها لا تحب استجداء مشاعره لأن الخذلان الذي تشعر به أرهقها وباتت تسمع وعودات مستمرة ولا توجد بارقة أمل لحل قضية الأسرى المضربين.
وأوضحت لـ مكتب إعلام الأسرى إن الطفل عادة يحاول أن يسألها حول والده؛ ولكنها تشعر أنها لا يجب أن تحول جميع اهتماماته نحو هذا الأمر لأنه ما زال طفلا صغيرا ويستحق حياة ملأى بالفرح واللعب واللهو، وما يحدث مع والده هو أمر موجع للغاية وقاس على قلب طفل صغير هو وحيد والده.
محمد لم يعش مع والده كثيرا فالاعتقالات سلبت أوقاتهما؛ ووالده في مخيلته بات مرتبطا بالسجن والبعد والفراق والألم؛ وبالتالي تحاول الأم ألا تعزز هذه المصطلحات داخل الطفل أكثر، رغم أن ذلك يزيد من فخره بوالده ويشعره بعظيم صنعه.
وأضافت:" فجأة يقوم بسؤالي ما معنى الأمعاء الخاوية؟ ما معنى الاعتقال الإداري؟ هل سنعيش كعائلة واحدة حين يعود بابا من الأسر؟ كما أنه يحفظ أسماء جميع المحامين ووظائفهم؛ ويسألني ما معنى "النيابة العسكرية!، وحتى أنه حين ينجز حفظ بعض الأحاديث النبوية الشريفة يعود سعيدا إلى المنزل ويقول لي أخبري المحامي أن يبلغ بابا أنني حفظت هذه الأحاديث".
الوقفات التضامنية تزعجه كثيرا ويشعر وكأنه مجبر عليها؛ وأحيانا تلاحظ عليه والدته محاولة عدم البكاء خلالها، حتى بات يختبئ خلفها إذا رأى المصورين والصحفيين، ويطلب منها الحديث معهم بدلا منه، وحين رأى صورته منتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي انزعج وتضايق ولم يعجبه الأمر فحاولت إقناعه أن هذه الصورة كي يراها "بابا" في سجنه، فرد عليها:"جعلتِني أحزن!".
هذا الظرف والتعنت الاحتلالي يجعل أسماء وطفلها يعيشان ظروفا غير عادية؛ وهي بلا شك تؤثر على حياته حتى لو حاولت تجنيبه كل شيء، ففي كل يوم تضطر للخروج من المنزل والتنقل بين المحافظات للمشاركة في الفعاليات الإسنادية؛ وهذا يرهق محمد إذا كان معها ويجعله يفتقدها ويفتقد والده إذا أبقته لدى عائلتها، هذا الأمر برمته يؤثر على نفسيته بالطبع ويجعله يدفع ثمنا لا شأن له به.
أما موقفها هي؛ فترى أن حجم الفعاليات التضامنية ضعيف ولا يرقى لمستوى تضحيات الأسرى المضربين فمنهم من تجاوز إضرابه المئة يوم دون حراك فاعل وجدي، وهذا الأمر يرهقها كثيرا ويزيد من حالة الإحباط العامة لدى الأهالي الذين لا يجدون حلاً لقلوبهم المحترقة على أجسادٍ هزيلة ترفض حياة ذليلة في ظل الإداري وتفضّل الجوع عليه!