تشعرُ وأنت واقفٌ بين يديه أنّك تقف في حضرةِ فلسطينَ الكبيرة بقدسها العظيمة التي شرَّفها الله بمكانةٍ مميزة، نور ووقار وهيبة وعزة تخرج من وجه هذا الرجل المجاهد الذي ما لانت له هامة، وما طأطأ رأسه في يوم من الأيام أمام أي ريحٍ عاصفةٍ كانت أم هادئة، فكان هو "أبو عاصف" الرجل الثائر المقاتل العنيد المحب لفلسطين.
بعد تاريخ حافل من التضحيات والصمود ترجل الفارس عن جواده، غلبه المرض بعد أن عجز عن ذلك الاحتلال والاعتقال لعشرات السنين والتعذيب والتنكيل وفقدان الأحبة اما شهداء أو أسرى .
مرض العصر الحديث اختار أبو عاصف شهيداً بعد أن أبلى حسناً في مواجهة ومقارعة الاحتلال وتقديم التضحيات تلو التضحيات بنفسه وماله وأهله، يغادرنا اليوم البطل الحقيقي عمر صالح البرغوثي "أبو عاصف" جسداً، لكنه سيبقى يحيا فينا للأبد فكرة ونهجًا.
في إحدى المرات وخلال اعتقاله مع مقاومين من تنظيمات مختلفة سأله المحقق "الصهيوني" بشكل خبيث لبث الفرقة، هذا فـتح والثاني شعــبيـة وأنت حمـاس شو جابك معاهم؟! فكان الرد المزلزل من أبو عاصف: كل واحد بقاوم وبطخ عليكم أنا معاه!! فقطع الطريق على هذا الأخرق الذى كان يعتقد أنه يمكن أن يغلب ذلك الجبل الأشم .
ترجل أبو عاصف بعد ثمانٍ وعشرون عامًا أمضاها في الأسر، ثلاث عشرة منها فقط في الاعتقال الإداري المتجدد دون تهمة لابعاده عن الميدان خوفاً من تأثيره ووجوده بين شعبه ومحبيه .
اختار أبو عاصف طريقًا واضحًا وضوح الشمس لم يتراجع قيد أنملة ، لم يعمل حساباً للاحتلال وأذنابه يوماً من الأيام، فقبل مرضه الأخير بشهر واحد فقط كان آخر استدعاء للشيخ بعد اتصال متكرر من قبل المخابرات توجه أبوعاصف الى مركز عوفر الاعتقالي حيث وجه له ضابط صهيوني تحذيراً من الترشح لانتخابات التشريعي القادمة وهدده بالسجن والملاحقة. فرد عليه الشيخ عمر بأنهم سيبقون أعداء للشعب الفلسطيني وأن الانتخابات تحتاج شرعية وقوة وتحدياً للاحتلال.
بدأ أبو عاصف نضاله ضد الاحتلال مبكراً حيث شارك شقيقه أقدم أسير في العالم "نائل البرغوثي" تنفيذ عملية فدائية، قتل فيها مستوطناً صهيونياً عام 1978م، وتم اعتقالهما وحكم عليهما بالسجن المؤبد، وبعد 8 سنوات تحرر أبوعاصف خلال صفقة تبادل للأسرى عام 1985م، بينما تحرر شقيقه " نائل" بعد 34 عاما كاملة في صفقة وفاء الأحرار عام 2011 ، وأعيد اعتقاله بعد 3 سنوات فقط ، ولا يزال يقبع في السجون حتى الآن .
ومنذ تحرره لم يتوانى عن مقاومة الاحتلال، حيث أعيد اعتقال "أبو عاصف" عشرات المرات، وقد بلغ مجموع ما أمضاه في سجون الاحتلال ما يزيد عن 28 عاماً كان آخرها اعتقاله ادارياً لمدة 9 شهور ، وتحرر في بداية العام الجاري .
كان بمثابة الأب والمعلم للأسرى في سجون الاحتلال، وخاصة فترة التحقيق ، وكان يحتضن الجميع ويقف على مسافة واحدة منهم رغم اختلاف التنظيمات لذلك أحبه الجميع لاهتمامه بجموع الأسرى وقضاياهم، ومحاولته حل مشكلاتهم ومواجهة سياسات الاحتلال العدوانية تجاههم.
فيما تميز خارج الأسر كذلك بعلاقات فريدة مع جميع أهالي قريته كوبر فكان الحبيب والصديق للجميع ، صاحب الهيبة والمكانة رجل وطني و اجتماعي بكل ما تحمل الكلمة من معنى لا يفرِّق بين هذا وذاك ، حسه الوطني عالٍ وانتمائه للوطن كبير ، كان لا يترك مناسبة دون أن يشارك بها، ولا يترك إنساناً دون السؤال عنه، له في وجهه علامة نور نحسبه من الصالحين ولا نزكي على الله أحداً .
أبو عاصف كان عاشقاً لتراب الوطن ، ففي الأوقات القليلة التي يتواجد فيها خارج السجون وقبل أن يُعاد اعتقاله مرة أخرى كان يذهب للأرض التي يعشقْ ، يزرع ويقلع ويفلح فهو من ابتدع قصة شجرة زيتون عن كل عام أمضاه شقيقة نائل داخل الأسر .
لم تقف تضحيات أبوعاصف عند نفسه فقط انما خلال سنوات النضال الطويلة من عمره قدم نجله "صالح" شهيداً، وقدم نجله الآخر "عاصم" أسيراً ، بينما عانت عائلته كلها نتيجة استهدافه من قبل الاحتلال بالاقتحامات والتفتيش والتنكيل والاعتداء بالضرب وهدم المنزل والحرمان من زيارته خلال فترة اعتقاله .
ونحن نودع اليوم أبو عاصف لا يسعنا الا أن نقول رحمك الله يا شيخ عمر ولن نبكيك ولكن سنبقى على دربك حتى يتحقق حلمك بتحرير كامل تراب فلسطين .