في قرية المغير
أم مجاهد أبو عليا ترفض تقبل اعتقال ابنيها وشقيقةٌ توأم تشعر بألم الأكبال في يد شقيقها
الأسير معتصم أبو عليا
إعلام الأسرى


"أنا لم أربهم يوماً بيومه وألماً إثر ألم، حتى يضعوهم لي اليوم خلف القضبان" هكذا ردت أم مجاهد أبو عليا، من سكان قرية المغير، قضاء مدينة رام الله، على نساءٍ جئن لمنزلها كي يربطن على قلبها بعد مرور ليلةٍ سوداويةٍ عليها شهدت اختطاف الاحتلال لأصغر أبنائها.

أمهاتٌ لأسرى، جئن كي يضمدن جرح قلبها ويخبرنها بأن الأمر سيكون صعباً بادئ الأمر لكنها ستعتاد، بحكم خبرتهن في ألم الأسر والفقد لكنها كانت تنظر لهن بعيونٍ ممتلئة بالأسئلة ورفض الواقع وتحدث نفسها بأنها لن تعتاد الألم ولن تتقبل أن تنام على فراشٍ مريح وتأكل طعاماً لذيذاً وتتنفس وتواصل حياتها كما لو أن شيئاً لم يحدث.

فجر يوم الأربعاء، كانت إيمان دوابشة، أم مجاهد أبو عليا، على موعدٍ مع اقتحامٍ جديد لمنزلها، منزلٍ يقع على أطراف قرية المغير، قضاء مدينة رام الله، القرية التي لا تمر عليها ليلة هادئة بتاتاً ولا يسلم أهلها من رائحة الغاز وأصوات الرصاص وقد حفظوا غيباً صوت الجيبات العسكرية وضجيجها فيها، في ساعة مبكرة سمعت أم مجاهد صوتاً غريباً لوقوع شيءٍ ثقيل عند مدخل منزلها لتدرك لاحقاً أن قوات الاحتلال التي اقتحمت منزلها لو استطاعت فتح باب المدخل لكانت مداهمة فورية دون إذن ودون طرقٍ على الأبواب، لكن الأمر لم يكن سهلاً.

تروي أم مجاهد ما حدث عند اقتحام الاحتلال واعتقال فلذة كبدها، تقول" سارعوا للانتقال للباب الآخر، وهذا الباب صعب الفتح نظراً لأننا نعمل على إنهاء إصلاحات في المنزل وقد تعطلت يده، في بادئ الأمر لم نكن متأكدين بأنهم جنود، مناظرهم لا توحي بذلك أبداً، كنت أنا وابني معتصم وزوجي في المنزل فقط، نحاول أن نفتح لهم الباب وهم يخلعونه من الخارج".

اللحظات القليلة التي سبقت المداهمة، لم تكن سهلة على عائلة أبو عليا، تخوف من أنهم ربما يكونوا مستوطنين لا جنوداً كان حاضراً، أطلت أم مجاهد برأسها من شباك المنزل لتخبر الجنود أن هناك عطلاً في الباب لكن ذلك لم يكن ليقنعهم، فعمدوا إلى كسر شباك المنزل وخلع الباب والدخول عنوة.

أشكالهم ليست مألوفة، قوات خاصة، لحظات وبدأوا بضرب زوجها المقعد دون مراعاة لوضعه الصحي، وضرب ابنها أمام ناظرها وسحلهم، كانوا يرتدون أقنعة ولباساً غريباً، طلبوا من أم مجاهد أن تضع كل ما تملك على طاولة من مصاغ أو مال، مهددين بمصادرة كل شيء، ثم وأمامها اعتقلوا ابنها معتصم أبو عليا(19عاماً) ونقلوه إلى جهة مجهولة بعد ضربه وأبيه ضرباً مبرحاً، وقلب كامل محتويات المنزل، ولم تملك أمه إلا أن تصعد سطح المنزل وتلقي عليهم بوابلٍ من الأدعية وتشكو أمرها لله.

آلالم قرية بأكملها

كانت أم مجاهد تبدو هادئة إلا من ضجيجٍ داخلي، حين أنهت وصفها لقصة الاقتحام، هادئة إلا من شحوب وجهها واختفاء لونه وآثار بكاءٍ بدا أنها توقفت من الخارج فقط، وجلست تنصت لحديث النسوة اللواتي جئن لكي يخففن عليها، كانت جلستهن مناسبة كي تطرح كلٌ منهن ألمها أمام من حضر، أم عامر ابو عليا، زوجة أسير وأم لأسير قالت لها" أتذكر حين اعتقلوا ابني عامر أول مرة، كان لا يزال طفلاً، كنت حين أدخل الصالة أراه، حين أدخل المطبخ أراه، حين أنظر في مرايا المنزل أراه، أصبت بالجنون، سيكون الأمر صعباً عليك في البداية لأنه ابنك الأصغر لكنك ستعتادين".

لم تكن أم مجاهد لتواصل إنصاتها، فقالت" أنا لم أربهم كي يبقوا خلف الأسلاك الشائكة، كان معتصم كل ما تبقى لي الآن أخذوه أيضاً"، تركتها النساء تغوص مجدداً في صمتها ثم بدأ حوارٌ بين اختين عانت كلٌ منهما من آثار الاعتقال لأبنائهن، قالت أم عامر"في آخر مرة كنت خارج المنزل حين اعتقلوا ابني عامر، اتصلت بي ابنتي لتخبرني، فركضت خلف الجيب العسكري وأوقفتوه بكامل جسدي ثم فتحت الباب وودعته، لم أكن لأدعهم يذهبون قبل أن أودعه، لا أحد يعلم حجم الألم الذي يعتري قلب الأم حين يخطف ابنها أمام ناظرها، حتى عندما كنت أذهب لحضور محكمة له كان قلبي يركض لهفةً لرؤيته في كل زاوية أبحث عنه بسرعة دون أن أتحكم في نفسي قبل أن أتمكن من رؤيته، زوجي الأسير عاطف أبو عليا والذي يعتقله الاحتلال منذ العام 2009، ويقضي حكماً بالسجن مدة 16 عاماً له حصته من ألم قلبي، لكن ألم الأم على ابنها يختلف كلياً، كأن قطعةً من روحك اقتلعت".

تواصل أم عامر حديثها"ذات اعتقال، اضطررت أنا وشقيقتي أن نتقاسم حكم ابنينا، لا نقدر على الغرامات المالية، ولا نملك أن نردع روح المقاومة فيهم، أحياناً أشتهي أن أجد من يبدل لي "جرة الغاز" حين تنفذ، من يذهب بدلاً عني ليحمل كيس الطحين، أصبحت لهم الأم والأب في لحظة، لا أحد يعلم ألمنا، لا يعرف أحد كم أملك من قلق الآن وأنا معكم من التصريح الذي أعطي لي مدة سنة، أخاف أن يرفض كما كل مرة، أن يمزق لي على المعبر، وأعود دون أن أحصد حقي في الزيارة".

في قرية المغير لكل أمٍ حكاية مع قصص الاعتقالات، يبدو الأمر بالنسبة لهم روتينياً، يتلقون تهديدات كثيرة باعتقال أبنائهم ويخبر الاحتلال كبار القرية بأن الوضع إن استمر على حاله بما يشهده من مقاومة لشبان القرية فلن يبقِ الاحتلال على أي شاب وسيتم اعتقالهم جميعاً.

غالبية حالات الاعتقال في قرية المغير هي لأشبال تترواح أعمارهم بن ال14 عاماً وال20 عاماً، فهناك كل حديثٌ مقتضب مع أم يعكس صورة تربيتها لابنها، حين تقول إحداهن بأنها ألقت بجسدها على جيب عسكري أو وقفت بين الجندي وبين ابنها حين رفع السلاح في وجهه، يمكن معرفة لم يخش الاحتلال شبان هذه القرية بالذات.

الابن الثاني

بالعودة لأم مجاهد، الألم يزور منزلها للمرة الثانية ويخطف الفرد الأخير، فابنها معتصم ليس الأول الذي يعتقله الاحتلال، فقد اعتقل شقيقه مجاهد أبو عليا بتاريخ 1/10/2017، وبعد سلسلة من المحاكم التي تجرعت فيها الماً من الصبر نطق بحكم نهائي بحقه ومدته 14 شهراً.

الأسير معتصم أبو عليا كان يعد في الليلة التي سبقت اعتقاله الأيام لشقيقه مجاهد كي ينال حريته، كتب" باقي 37 يوماً فقط"، ولم يكن يعلم أنه القادم في سلسلة الاعتقالات التي لا تنتهي في قريته، كان قلب امه بانتظار فرحةٍ قريبة، والآن سيتكرر الألم مجدداً.

تفكر بعيداً عن جلسة النساء المطمئنات أم مجاهد، تستذكر كيف أخبرتها ابنتها بأنه وحين اعتقل الاحتلال شقيقها أحست بذات ألمه، فعصراً أخبرت أمها أن الألم توقف الآن في يديها، وعلمت الأم أنها شعرت بالسلاسل التي كبلت يدي شقيقها فعلياً، وأخبرتهم عن التوقيت الذي تم خلعها من يده، ومتى توقف ألم أقدامها، ومتى تسنى لشقيقها التوأم أن يلتقط أنفاسه، وربما لا تزال تستشعر كل لحظة ألم وانتظار يمر فيها شقيقها.

حين مغادرة منزل أم مجاهد يمكن ملاحظة سور على مقربة من الحي الذي تسكن فيه، خط عليه المستوطنون عبارة"لا لإرهاب الحجارة..الحجارة تساوي الموت"، رداً على السلاح الوحيد الذي يمتلكه أهالي القرية ضدهم وضد الاحتلال، الحجارة، وهو السلاح الذي يخشاه الاحتلال، ويرى بسببه وبسبب مقلاع الحجر في يد أطفال القرية أنها تشكل خطراً على أمنه، ستقف أم مجاهد طويلاً أمام العبارة في كل مرة تمر من هناك وذات صباحاتٍ متكررة ستجهز فيها نفسها لمحاكم جديدة ولتمديدٍ وغرامات وتأجيلٍ لأفراح قلبها.

جميع الحقوق محفوظة لمكتب إعلام الأسرى © 2020