45 دقيقة هي حياتنا .. !
بقلم زوجة الأسير سليم حجة

تسلل رنين منبه هاتفي من بين أنسجة الأغطية الدافئة معلنا عن موعد الاستيقاظ ...الساعه الآن الرابعة والنصف، أسرعت بالنهوض لم أتوانى للحظة أو أطلب من هاتفي أن يمنحني غفوة فلا مجال للغفوات أو الكسل فاليوم يوم مميز وعزيز أعز من دفء الأغطية ونعومة الوسائد .

توجهت إلى سرير ابني لإيقاظه لكن شعرت بالشفقة نحوه، فالجو بارد جداً والمطر يهطل بغزارة ... اقتربت إليه ونظر قلبي إلى وجهه فوجده ينعم بنوم دافئ ... ابتعدت مخاطبة أمومتي دعيه يستمتع قليلاً في نومه ومنحته الغفوة التي لم أمنحها لنفسي، غفوة لا تتعدى العشر دقائق .

انتهت الغفوة ودبت الحياة في المنزل باكراً فاليوم هو موعد زيارتنا إلى حبيب الفؤاد وشقيق الروح ... ارتدينا الملابس الدافئة وغادرنا المنزل مودعين دفئه، وأجسادنا ترتعش برداً وقلوبنا ترتعش شوقاً لذاك الحبيب، توجهنا لنجتمع مع أهالي الأسرى الآخرين شركاؤنا في المعاناة منذ سنوات، الطريق طويل والمطر غزير والبرد شديد .

أجلس بصمت متأملة ما يجري حولي من المشاهد التي تتكرر كل زيارة، فمعاناة أهالي الأسرى تختلف باختلاف المواسم، ولموسم الشتاء معاناة خاصة، وأجد نفسي تغرق لا شعوريا في بحر من الأفكار والخواطر، فهذا طفل لا يتعدى عمره الشهور يبكى ثائراً في حضن أمه .

الجميع يتأمله مشفقا فما الذنب الذي قد اقترفه ليفارق سريره ويستيقظ من نومه ويقف منتظرا مع والدته على المعابر، وهذه عجوز لا تقوى على السير تقف قليلا لتلتقط أنفاسها المتعبة وتريح مفاصلها المنهكة من البرد ولكن تعود إلى السير، فلا مجال للراحة يا أمي فالمطر يهطل فوق الرؤوس والحبيب ينتظرك ...وهذا شاب في مقتبل العمر يساعد والدته ممسكاً يدها فهو سندها بعد غياب والده .... وآخر يحمل شقيقته الصغرى ويمشي بها مسرعا خوفا عليها من قطرات المطر فهو بمقام والدها بعد غياب والدهم .

اكتمل عددنا وانطلقت بنا الحافلة تشق طريقها عبر مياه المطر التي تهطل بغزارة ... بدأ شعور بالدفء يتسلل تدريجيا إلى أجسادنا المرهقة، فلا أدري هل مصدره أنفاسنا المجتمعة داخل الحافلة أم شعورنا بأننا نقترب من رؤية الأحبة ....وكلٌ غارق في بحر تأملاته وأفكاره لا يقطعها سوى تراشق قطرات المطر على نوافذ الحافلة ...فالشتاء مناخ الأفكار والتأملات .

مضت ساعة ونيف من الزمن بدأت زخات المطر بالتلاشي تدريجيا كلما اقتربنا من صحراء المنفى.... وما أن وصلنا هناك حيث تربض أسودنا الأبطال حتى أصبح الجو شديد الجفاف ولم يبق إلا الهواء الصحراوي شديد البرودة، فتراه يدخل مباشرة إلى عظامنا مخترقا طبقات ملابسنا السميكة ويلفح زمهريره وجوهنا فتبدأ بالشحوب قليلا، ولكن هيهات أن يحبط عزيمتنا أو يكسر فرحتنا بلقاء الأحبة .

وما أن انتهينا من إجراءات تسجيل دخولنا وبدء العد التنازلي للًقاء، أخذ الدفء يسري في القلوب وبدأت الوجوه تحمر شوقا، فإليك عنا أيها البرد افعل ما تشاء فلن تجمد الحب في العروق فهو يسري مسرى الدم واللقاء بعد قليل .

وحانت اللحظة .. دخل جميع أهالي الأسرى قاعة الزيارة وبلهفة وشوق بدأ الكل يبحث عن أسيره ولكن لم يكن أسرانا قد تواجدوا داخل القاعة خلافا لما اعتدنا عليه، وجلسنا كلٌ ينتظر حبيبه بفارغ الصبر وما هي إلا دقائق حتى دخل أحبتنا وعيونهم تبحث عنا بشوق وتراها تلمع فرحاً وحباً عندما تتلاقى نظراته مع أحبته ويسرع بالجلوس خوفا من ضياع وقت الزيارة، فهناك الزمن محدد في 45 دقيقة تحسها ثواني من فرط الشوق والحنين .

خرجنا وكل يتذكر هذه الدقائق الثمينة ويستشعر الدفء من خلالها، عدنا وتركناهم هناك مرغمين في الصحراء الباردة والجو الذي يمطر شوقا .

ونعيش على ذكرى اللقاء وخيالات الشوق ولهفة الحب بين اللقاء واللقاء ..

جميع الحقوق محفوظة لمكتب إعلام الأسرى © 2020